ورغم أن المشهد العام يبدو متجهاً نحو بناء مؤسسات جديدة وإعادة هيكلة الدولة، إلا أن الغياب الظاهر للمحاسبة القانونية في بعض القضايا الحساسة، والتأخر في مقاضاة شخصيات بارزة، يثيران الكثير من القلق لدى فئات واسعة من المجتمع، خصوصاً الضحايا وذويهم. ولكن في خلفية هذا المشهد، تقف اعتبارات أخرى لا تقل أهمية، تتعلق بالتوازن الأمني، والسلم الأهلي، وتعقيدات التعامل مع إرث سياسي طويل وثقيل.
العدالة الانتقالية: دروس من تجارب العالم وإمكانية التطبيق في سورية
من المفيد النظر إلى تجارب العدالة الانتقالية في دول أخرى، ليس بهدف نسخها، بل لفهم كيف تعاملت مجتمعات ممزقة مع إرث الانتهاكات الواسعة، وكيف اختارت طرقاً مختلفة لتحقيق التوازن بين العدالة والسلم الأهلي. في جنوب أفريقيا، بعد نهاية نظام الفصل العنصري، اعتمدت الدولة لجنة "الحقيقة والمصالحة" التي منحت عفواً مشروطاً مقابل اعتراف الجناة بجرائمهم. ورغم انتقادات واسعة بأنها لم تحقق العدالة الجنائية الكاملة، فقد جنّبت البلاد صراعاً أهلياً جديداً، وسمحت بكشف جزء كبير من الحقيقة.
أما رواندا، فواجهت تحدياً هائلاً بعد الإبادة الجماعية عام 1994، وعالجته بمحاكم مجتمعية محلية تُعرف بـ"غاكاكا"، والتي مكنت من محاكمة مئات آلاف القضايا بسرعة، ولو بآليات غير تقليدية. كانت خطوة اضطرارية لمعالجة الحجم الضخم للجرائم في غياب مؤسسات قضائية متماسكة.
في تشيلي، حاول النظام السابق إحكام الحصانة حول مسؤوليه، لكن الضغوط الشعبية والمؤسسات الحقوقية تمكّنت على المدى الطويل من فتح ملفات الجرائم، وتقديم بعض القادة للمساءلة، في مزيج من العمل القضائي والتوثيقي الطويل. وفي البوسنة والهرسك، أنشأت الأمم المتحدة محكمة جنائية خاصة ليوغوسلافيا السابقة، حاكمت كبار مرتكبي الجرائم خلال الحرب الأهلية، ووضعت سابقة لمساءلة قادة سياسيين وعسكريين على أعلى المستويات.
دروس مستفادة وتطبيق عملي في سورية
هذه التجارب تُظهر أن العدالة الانتقالية لا تتبع مساراً واحداً، بل تتشكل وفق تعقيدات كل بلد. في الحالة السورية، يجب الاعتراف بأن:
- الدولة الخارجة من نزاع معقّد، ما زالت تواجه تحديات أمنية واجتماعية.
- كثير من شبكات النفوذ القديمة لم يفكك بالكامل.
- المؤسسات القضائية تحتاج إلى إصلاح جذري لتكون مؤهلة لتحمل عبء العدالة الانتقالية.
لهذا، فإن نموذجاً عملياً لسورية قد يشمل ما يلي:
- تأسيس هيئة وطنية مستقلة للعدالة الانتقالية، تتكون من حقوقيين، قضاة مشهود لهم بالنزاهة، وممثلين عن الضحايا والمجتمع المدني.
- إطلاق مسار توثيق رسمي واسع لانتهاكات العقود الماضية، يتم بإشراف قانوني ويغطي جميع الأطراف، ويشكل أساساً للمساءلة.
- التمييز بين فئات المنتهكين؛ كبار المسؤولين والضالعين مباشرة في القتل والتعذيب يجب أن يحالوا إلى المحاكم فوراً، بضمانات عدالة قانونية واضحة. ومن تورطوا في جرائم ثانوية أو بضغط وظيفي أو تحت تهديد يمكن التعامل معهم من خلال آليات تخفيف العقوبة أو المصالحة المشروطة.
- حظر مغادرة البلاد مؤقتاً على المشتبه فيهم حتى انتهاء التحقيقات الرسمية.
- عدم الاستعجال في المحاكمات على حساب بناء الملف القانوني، لأن أخطاء الإجراء قد تقوّض العدالة أكثر من تأخيرها.
بذلك، لا نكرر أخطاء "العدالة الانتقائية"، ولا نقع في فخ العفو العام غير المشروط، بل نرسي مساراً واقعياً يراعي التحديات ويضمن للضحايا حقوقهم.
العدالة الانتقالية ليست ترفاً
من المهم أن تدرك الحكومة السورية الجديدة أن التأخير في العدالة، إن لم يكن مبرراً، قد يرسخ منطق الإفلات من العقاب. لكن في الوقت نفسه، فإن التسرع في إجراءات المحاسبة دون تأمين الاستقرار المؤسسي والقانوني قد يعيد البلاد إلى دوامة الفوضى. العدالة الانتقالية في سورية يجب أن تُبنى على إدراك عميق لتوازنات المرحلة، وعلى التزام قانوني وأخلاقي أمام الضحايا، وعلى شجاعة سياسية تتجاوز المساومات. ولعل الأهم، أن تكون هذه العدالة واضحة في معاييرها، لا تخضع للمزاج السياسي أو للضغوط المرحلية، بل تعمل ضمن إطار مؤسساتي يُطمئن المجتمع بأن ما بعد الصراع سيكون مختلفاً حقاً عما قبله.
العدالة ليست خطوة إجرائية فحسب، بل هي حجر الأساس في بناء الثقة بين المواطن والدولة. وأي انحراف عن هذا المسار، أو محاولة تطويعه لأغراض سياسية، لن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الماضي، ولو بأدوات جديدة.
إن العدالة الانتقالية ليست قراراً إدارياً، بل عقد اجتماعي جديد يُبنى على الاعتراف، والمساءلة، والإصلاح. وفي الحالة السورية، لا بد من صبر حكيم، وعزم قانوني، وإرادة لا تنحني أمام التعقيد. فالقصاص قادم، لكن عليه أن يأتي من باب العدالة، لا من شباك الانتقام.