
نحن، الناجين من بَطش إسرائيل، ومن شَرِّ إيران ومنتفعاتها الإقليمية، تَحوَّلنا، بين ليلةٍ وضحاها، من مُجرّد ضحايا إلى ضحايا شُهود. ولا أقصد أننا شهودٌ على الحرب الإسرائيلية الإيرانية الراهنة بطبيعة الحال؛ فمعلوماتنا عنها أقلّ من أن نكون شهوداً عليها؛ ولكنَّنا شهودٌ على انهيار سلطةِ التقاليد السياسية في العالم، التي كانت السلطة المُهمّة غيرَ المرئيةِ، التي ظلّت حاضرةً في العلاقات الدولية منذ زمنٍ بعيد، تُؤسِّسها النظرياتُ وعلمُ العلاقات الدوليَّة. نحن شهودٌ على نهاية التقاليد الدوليَّة من دون أيّ تحدٍ سياسي، أو ثوري، أو فكري لمضمونها، لكنّها تنهار بلمح البصر، وبافتراضٍ ترامبيٍّ لا يقول شيئاً إلا "أنا مُختلفٌ عن الجميع". وبما أن الرجلَ رئيسٌ قويٌّ لأقوى دولةٍ، صار العالم لا يقول شيئاً إلا أنّه يقبل مبدأ التغيير هذا من دون مقدّماتٍ، ومن دون تمهيدٍ للوجهةِ الأخيرة التي سيستقرّ فيها هذا التغيير في العالم، أو حتى تلميح. وهذا هو بالضبط ما يمكن أن نُسميه عصرَ التطايُر السياسي الكوني (Global political volatility)، ولكن ليس تطاير الناخبين من الأحزاب، بالمعنى الذي تضمَّنه مؤشّر موغنس بيدرسن، بل تطاير الفكر من السياسة، وتطاير السياسة من الفكر، وتطاير الاثنين من بين أيدينا لتحتل الشعبوية كلَّ فراغٍ ينتج من هذا التطاير.
يبدأ الفعل السياسي، من ملكية المنهج، من ثمّ امتلاك منظورٍ خاصّ، وليس من أي مكانٍ آخر
أسهل ما يمكن أن نفعله، في عصر التطاير السياسي هذا، هو الذي اعتدنا أن نفعله دائماً بوصفنا غير فاعلين: أن نُمنِّي أنفسنا خيراً بالنهايات، وبما أننا نختار الأسهل بحكم العادة، فلو نتمنَّى أن يكون هذا المشهد مؤقّتاً نكون فعلنا خيراً، فالتمنِّي السليم هو الفعل الأقرب إلى المعقول الذي نقدر عليه، وقد يكون التمنِّي دعاءً، أو أملًا، أو أيَّ شيءٍ يدّل على فكرة التمنِّي وتفرّعاتها اللغوية والنفسية والعقائدية. ولكن، لنكُن منصفين؛ فالتمنِّي ليس الفعل الوحيد المُتاح للشهود البعيدين من دائرة الفعل، بل أيضاً التعلُّم من هذا الحدث الاستثنائي، علَّنا نبدأ مع هذه الموجة العالمية في تفعيل العبارة الخلّاقة التي يحتضنها تراثُنا "حتى يغيّروا ما بأنفسهم". والتَعلُّم من هذا الحدث يتضمّن ترتيب اللغة الملائمة لتوصيف الحدث بصورةٍ ترضي العقلَ والضمير؛ لأن المقولات التقليدية التي اكتسحت أدبيات الضحايا، مثل "ترامب مجنون"، و"نتنياهو مجرمٌ متورّط"، و"المؤامرة مُحاكةٌ منذ زمنٍ بعيد"، و"سردية معاوية ويزيد"، واللهم اضرب الظالمين بالظالمين"... وما إلى ذلك، كلَّها مقولاتٌ لم تعد تنفع، ولغةٌ لم تعد ملائمة. الأجدى هو الصمت، ولكن ليس أيّ صمت، بل الحوار الصامت مع الذات، أي فعل التفكير نفسه، وابتكار الأسئلة السياسية السليمة والمفيدة. لا يَهمُّ ما الذي تعنيه "الذات" في هذا السياق، بل المُهم أن تكون ذاتاً تعرف كيف تُفكِّر، لتكن أيّ شيءٍ يقتنع المرءُ به، لتكن ذاته الفردية، أو بمعنى "الوطنية"، أو لتكن بمعنى "الأمّة"، لتكن أيَّ معنى يُرضي قناعاتنا، لا بأس بذلك؛ ولكن بشرط أن نجعل منها ذاتاً تُفكِّر سياسياً، وتسأل السؤال الآتي مثلاً: أمام أنقاض التقاليد السياسية الدولية التي كانت راسخةً، وأمام التطاير وسلطة المؤقّت، الذي يترك أثراً دائماً، قبل أن يتطاير، ما هي التغييرات البنيوية التي نحتاجها لنصبح فاعلين قادرين على خدمة ذواتنا، والمشاركة في نوعية المستقبل الذي ينتظر أبناءَنا؟
ما إن نضع مثل هذا النوع من الأسئلة في صلب تفكيرنا، حتى يصبح لدينا منظورٌ للواقع، منظورٌ نمتلكه، يَنتجُ من منهجيةٍ تخصّنا، وتُشبهنا، صمَّمناها نحن بأسلوبنا لتخدم سؤالنا الذي نبحث عن إجاباته من أجل المستقبل، ومن هنا فحسب، يبدأ الفعل السياسي، من ملكية المنهج، من ثمّ امتلاك منظورٍ خاصّ، ليس من أي مكانٍ آخر. كلمة "منظور" هنا مُهمَّة، ونقول "امتلاك منظورٍ"، لأنَّنا نعتقد بضرورة هذه الملكية في الأيام المقبلة بوصفها شرطاً للعضوية الفاعلة في المجتمع الدولي إلى حين عودة القيم (إن عادت)، وتراجع عصر التطاير.
انتصر منظور نتنياهو الصهيوني للمنطقة على الخير فيها، وعلى الشرّ أيضاً، ويتجه ليكون الشر الوحيد المتحكّم بحاضرها ومستقبلها
يمكن أن نقول إن هذا الانهيار في التقاليد العالمية يُعوّض بما كان يسميه نيتشه التفكير المنظوري (The perspective thinking)، الذي صار ينظّم الجديد في العلاقات الدولية؛ فالواقع العالمي صار يُقاس بالمنظور الذاتي الذي يمتلك القُدرة على الإقناع، بما تتضمّنه هذه القدرة من شبكات ضغطٍ وسردياتٍ كُبرى، وقوة تكنولوجية وإعلامية، وأخيراً اقتصادية وعسكرية. لذلك انتصر منظور نتنياهو الصهيوني للمنطقة على الخير فيها، وعلى الشرّ أيضاً، ويتجه ليكون الشر الوحيد المتحكّم بحاضرها ومستقبلها. رحم الله محمود درويش الذي تكلّم عن "أنين الحقِّ العاجز عن الإتيان بالبرهان على قوَّة الحقِّ أمام حقِّ القوَّة المتمادية". درويش كان مُحقّاً جدّاً، فنحن اليوم لسنا أكثر من شهودٍ على انتصار حقّ القوَّة، أياً كانت نتيجة هذه الحرب الدائرة اليوم. ولم يبقَ شيء إلا الدعاء بأن يُدخِل اللهُ العِلمَ إلى عُقولنا؛ فنتعلّم كيف نصنع لحقّنا قوَّةً، ونربّي الفكرَ بدلاً من الوهم بأن ولاية الفقيه وشبيهاتها من النظريات المضادّة للسياسة في أصلها، يمكن أن تكون قوةً لحقٍّ عظيمٍ مثل الحقّ الفلسطيني، لنربّي الفكر بدلاً من هذه "البراغماتية" الجديدة المثيرة للشفقة.
إن صاحب هذه السطور يجزم بأن غياب هذا النوع من التفكير يعني بالضرورة غياب السياسة، واستمرار غيابنا من التاريخ، إلا بوصفنا شهوداً، أيّاً كانت نوعية الجماعة التي تدّل عليها هذه الـ"نا" في السرديات الهُووية التي لا نزال نُسمّنها منذ زمنٍ طويل، ولا نفعل شيئاً أكثر من تربيتها ورعايتها، وتقديسها، واستبدالها بشيءٍ من سلالتها. حسبُ التفكير الآن أن يتتبَّع أثرَ غيابِهِ في حاضرنا ومستقبلنا، وقد نقول للذين يتوقّعون في القراءة إجاباتٍ عن أسئلةٍ كُبرى: ليست في هذا المقال نتائج جاهزة ترضي الذين ينظرون إلى الحقائق والحلول بوصفها "دليفري" تصل ساخنةً إلى أبواب بيوتهم، فالتفكير لا يَعِدُ بالنتائج، مع أنه الوحيد الذي يأتي بها، ولكن يأتي بها بعد الصبر والاستمرارية والشراكة، والعِصامية بما فيها من معاني الاستقلال، والاعتماد على الذات في بناء المستقبل وصناعته. وهذا كلّه يبدأ من احترام فعل التفكير، وتقديره، واحتقار الجعجعة التي لا تنتج طحيناً، وتقدير الصمت بوصفه صوت الحوار مع "آخر الذات"؛ فالصمت صوت التفكير، والتفكير ضروري لكلّ فعلٍ سياسي سليم.
