
سمّت حركة حماس اكتمال سيطرتها على المقارّ الأمنية والمدنيّة للسلطة الفلسطينية في قطاع غزّة يوم 14 يونيو/ حزيران 2007 "حسماً عسكرياً"، بعد اشتباكاتٍ مسلحةٍ، متقطّعةٍ أولاً، ثم في معارك عنيفةٍ قتاليةٍ مع عمليات خطفٍ واغتيالاتٍ، فيما يتبنّى العنوان أعلاه تسميتَه انقلاباً (بلا قوسين). ولا يُتذكّر هنا ذلك الحدث بمناسبة اكتمال 18 عاماً عليه الأسبوع الجاري فقط، وهذه غواية الصحافة التي نُزاولها، وإنما أيضاً لإطلالةٍ عليه في لحظة الكارثة التي يُغالبها أهل غزّة بفعل حرب الإبادة الجارية... غير أن أي التفاتةٍ إلى هناك لا يجوز، في أي حال، أن تتورّط في المغالطة الذائعة، أن الذي جرى، ثم الانقسام المخزي والمديد، كانا بسبب رؤيتيْن تصادمتا، واحدةٍ استسلاميةٍ مفرّطةٍ عنوانُها الارتهانُ لمتطلّبات اتفاق أوسلو وتوابعه، وتعبّر عنه السلطة ممثلةً برئاسة محمود عبّاس والقيادة النافذة في حركة فتح ومنظمّة التحرير، فيما الأخرى تُرابط على المقاومة ضد الاحتلال بكل الوسائل، وتنهج هذا وترفض أي خيار آخر.
هذا غير صحيح، ليس فقط لأن بيان رئيس الحكومة التي نتجت عن انتخابات المجلس التشريعي، إسماعيل هنيّة، ونال عليه ثقة هذا المجلس (مارس/ آذار 2006)، أكّد أن هذه الحكومة ستتعامل مع الاتفاقيات التي وقعتها منظمّة التحرير والسلطة "بمسؤوليةٍ وطنيةٍ عليا، وبما يخدم مصالح شعبنا وحقوقه الثابتة". وإنما أيضاً لأن بواعث النزاع المسلّح ذاك لم تكن أبداً انبطاحَ طرفٍ في السلام والاستسلام وتمنطُق الطرف الآخر البواريد لمناطحة إسرائيل، بل هو الخلاف الذي احتدّ وامتدّ بشأن أيٍّ من الجانبين له سلطة الولاية على الأجهزة الأمنية، بعد سجالٍ غير منسيٍّ على مشروعيّة تشكيل وزير الداخلية في الحكومة، سعيد صيام (حماس) ما سمّاها "قوة تنفيذية" من عناصر كتائب الشهيد عزّ الدين القسّام. هذا هو الأصل والفصل في القصة كلها. إنه النزوعُ إلى هيمنة القوّة المسلّحة لدى "حماس" على القرار الأمني، بكل تفاصيله، في القطاع، فيما استشعر الفتحاويون هناك خطراً داهماً عليهم من هذا الحال، وكانوا أقلّ مقدرةً على "الحسم"، فأحرزه أولئك في "انقلابٍ" لا اسم له غير هذا الاسم. سيّما أن اتفاقية مكّة المكرمة بعد اشتباكاتٍ أولى (فبراير/ شباط 2007) لم تحلّ خلافاً بين مقاومين ومفرّطين، ولم تأتِ على هذا أبداً، بل على وحدة المؤسّسة الفلسطينية. وذلك كله إذا لم نغيّب أن مشاركة "حماس" في الانتخابات التشريعية تلك (لأول مرّة رغم مشاركاتها في انتخابات بلدية سابقة) كانت تحت سقوف السلطة الوطنية التي تتظلّل بمنظمّة التحرير التي كان شديد الأهمية قول الشهيد إسماعيل هنيّة عنها، في بيانه ذاك، إنها "الإطار المجسّد لآمال شعبنا وتضحياته المستمرّة لنيل حقوقه، والتي تشكّل عنواناً نضالياً تراكمياً نعتزّ به، ونسعى إلى تطويره وإصلاحه".
دع عنك اتفاق الشاطئ (إبريل/ نيسان 2014) وحكومات الوحدة (والتكنوقراط!) بعده، فقد ظلّت "حماس" في قطاع غزّة، ولا تزال، صاحبة القرار في كل أمرٍ وشأن، مدنيٍّ وعسكريٍّ وأمني، فلمّا طولبت بأن تصدُر أعداد شهداء حرب الإبادة عن وزارة الصحّة الفلسطينية في رام الله، والمفترض أن مستشفيات غزّة تتبع لها، رفضت. وتغيّرٌ محمودٌ أنْ تقبل الحركة، بصدق، خطّة إنشاء لجنة الإدارة المدنية في قطاع غزّة في اليوم التالي للحرب، وترضى بأن تتسلم هذه اللجنة الولاية الأمنية والعسكرية، وتساند عدم التسامح مع أي ظهور مسلّح لأيٍّ من عناصرها في الشارع. ولكنّ خراب مالطة المشهود لا يترُك مساحةً لأي خططٍ على الورق، يكتبُها موظّفون في المخابرات المصرية، بتشاور مع وفودٍ فتحاويةٍ (بلا رغبة محمود عبّاس!) وحمساوية، فالذي قدّام الجميع كارثي، عنوانُه نكبةٌ بلا أفق. والغزّي المُحاصَر من شمال القطاع في بيت حانون إلى رفح في الجنوب، ويُجوَّع ويُفتك به، وسبق له أن انتفض، إلى حدّ ما، ضد حكم "حماس" وسلطتها، لا نظنّه يفتّش، كما الحركة الإسلامية المجاهدة، عن "ضماناتٍ" من نتنياهو وترامب بعدم عودة الحرب بعد انتهاء هدنةٍ مطروحةٍ مدّتها 60 يوماً، في مقابل تسليم عشرة أسرى إسرائيليين (وعدّة جثث)، وإنما نظنّه يشتهي هذه الهدنة وبأي ثمن. لكن القرار الأمني والعسكري والمدني في القطاع لحركة حماس وحدها (أو لذراعها العسكري ربما؟)، تماماً كما جعَلَه هكذا "الحسم" الذي مُسمّاه انقلابٌ، قبل 18 عاماً.

Related News


