"لاقيني تاني" لـ ندى الشاذلي... بين قانون وقيثارة
Arab
1 week ago
share

اللجوء إلى آلة الهارب لكي ترافق موّالاً على مقام الصبا يلفت الأسماع، ولا تكاد تكون له سابقة في الأغنية الناطقة بالعربية؛ ما دعا إلى التوقف عند فيديو كليب "لاقيني تاني" للفنانة المصرية الكندية، متعددة المنهجيات، ندى الشاذلي.

الأغنية هي الثامنة من بين تراكات ألبوم يحمل الاسم نفسه، كان قد صدر في بداية الشهر الحالي، وأشرفت على إنتاجه وتسويقه شركة One Little Independent Records البريطانية، ذات الهوى التقدّمي والميل إلى تبنّي إنتاجات موسيقى بديلة (Indie) من لوني Punk وPunk rock، وقد سبق لها أن تعاملت مع موسيقيين مغالين في التفرّد الفني، مثل الآيسلندية بيورك (Björk).

بغية دخول أجواء الصبا، لم تترك العازفة المشاركة في تسجيل الأغنية، Sarah Pagé، المقيمة في مدينة مونتريال الكندية، آلتها الهارب على دوزانها المعياري على السلم الغربي المعدّل، بل أرخت بعض أوتارها لتتمكن من نقر نغمة السيكاه ذات عتبة البُعيْد، ما أحدث تغييراً طفيفاً في هويتها اللونية، بوصفها في الأساس آلة أوركسترالية أوروبية سليلة القيثارة. إلا أن التغيير كان كافياً لجعل الأذن تحتار: هل هذا صوت قانون، أم عود قروسطيّ مُأَوْرَب، أي ما يُعرف باسم Lute، أو آلة جديدة مبتكرة؟

بدورها، لا تُقيّد ندى الشاذلي غناءها بجنس الأصل لمقام الصبا، فتدعه يتغرّب قليلاً؛ إذ ترفع نغمة السيكاه عند ملامستها لها، ليُسمع بُعيدها نصفَ بعد. بذلك، إنما تقابل ما أصاب الهارب من تعريب، في ما يشبه Counterpoint ثقافياً ناتجاً عن رؤية تفكيكية، تميّع الحدود بين عناصر الأغنية المختلفة: سواء كانت الآلة الموسيقية، شخصية المقام، أم المؤدّين أنفسهم بسيرهم الذاتية.

عند مقطع "إيه تاني"، يُسمع كلّ من صوت الغناء ونقر الهارب كما لو تهشّما لبرهة قصيرة، بفعل حنجرة ندى الشاذلي غير المدرّبة بالضرورة على الطرب الأصيل، وإنما الموجّهة نحو الأداء التعبيري. أما الآلة الوترية، فقد أصاب صوتها تشويه اصطناعي، عقب مروره عبر قنوات إنتاج إلكترونية، ليصدُر مطعّماً بتشويشٍ كهرومغناطيسي (في الدقيقة 0:30).

تجعل تلك المقاربة المابعد حداثية من الموّال الذي تُستهلّ به "لاقيني تاني"، أشبه بعيّنة ثقافية تُعالَج ضمن إطار من Jazz حر، يقوم على صخب الارتجال والاسترسال، تنتقل عند الدقيقة (4:15) إلى نظم إيقاع دفٍّ رباعي، ذي وقع صوفيّ، يجمع الحلم بالندب، بالوجد وبالهلوسة (Psychedelic).

يُضاف إلى ذلك المادة البصرية لحبكة الفيديو، إذ تتنقّل بين مشاهد صُوِّرت بفيلتر Retro تتصدّرهما الفنانة، أحدها وهي تؤدي على المسرح، وآخر على طريق سريعة، راجلة أو في سيارة، ثم بصحبة نسوة، تارة في حديقة مظلمة، وتارة يجلسن على أريكة في غرفة يلهون بسكّين نُقش عليه اسم الألبوم/الأغنية، تحت إضاءة خافتة مريبة، تذكّر بفيلم مصاصي الدماء (Only Lovers Left Alive) إنتاج سنة 2013 لمخرج الآرت هاوس الأميركي جيم جارموش.

لعلّ تلك المشهدية الجامعة بين الرومانسية والسوريالية، المفعمة بالغموض والريبة، قد تولّدت بفعل مقام الصبا، حين يُعكس على مرآة موسيقية معولمة مثل الجاز الحر. كما لو أنّ Sarah Pagé، حين أرخَت أوتار آلتها الهارب لتتمكن من نقر بُعيدَ السيكاه، وندى الشاذلي، حين زعزعت بأدائها التعبيري الهوية الثقافية للطرب العربي، قد ألهمتا كلّ من اشتغل على إنتاج "لاقيني تاني"، أكان سمعياً أم بصرياً، بمقاربة غرائبية فرضها خروج النغمة الشرقية عن المألوف لدى الأذن الغربية؛ فلئن تُسمع نشازاً، فإنها تولّد خيالاً يُنشئ مناخات منزاحة عن الواقع، تبثّ الحيرة والقلق وعدم الثبات والاستقرار، وتحرّض المستمع على الدخول في حال مفارقة للوعي (Altered state of consciousness).

ربط الجماليات الشرقية بالغرائبية ليس غريباً عن المنظار الغربي الذي تعولم، بل يكمن في صلب الاستشراق بوصفه إطاراً تلقائياً ظلّت تُرى من خلاله صورة "الشرق" على مدى قرون. وقد أصبح الحديث عن التغريب (Exoticization) اليوم بمثابة كليشيه نقدية، يتكرّر في كلّ نقاش حول تمثيل "الآخر" من منظار "النحن".

غير أنّ ما يلفت في سياق الإضاءة على "لاقيني تاني" هو أنّ الذائقة لدى شباب الشرق والغرب على حد سواء، خاصة أولئك الذين باتوا ينتمون إلى طبقة وسطى معولمة، أصبحت تتجاوز المحلية لكن من دون أن تقطع معها، بل تعيد توظيفها ضمن إنتاجات هجينة وعابرة للأنماط (Crossover)، تستثمر الخصوصيات الثقافية في ابتكار لغة حسية تُحاكي الجميع على اختلاف ثقافاتهم، كلّاً بحسب استجابته الخاصة لنمط صوتي مثل مقام الصبا مثلاً.

بهذا، لا يعود التغريب مقتصراً على نظرة الغرب إلى الشرق، بل يُعيد تدويره فنانون شباب من أصول مشرقية ينشطون في مجالات الموسيقى الجماهيرية الصرفة أو المستقلة والبديلة، سواء في الأورينتال جاز، أو الأورينتال راب، أو الموسيقى الإلكترونية، إذ تُقدَّم العناصر الشرقية بوصفها خامات صوتية وإيقاعية، تُختبر ضمن نطاق البيئة المحلية وخارجها في وقت واحد، بغية استكشاف مديات تعبيرية جديدة تعكس روح عصرهم، وتُشرك معهم العالم بأسره. بذلك، كما لو أنهم يستلبون الاستشراق، لينزعوا الكولونيالية عنه.

ثمة عنصران آخران يبرزان أيضاً في ألبوم "لاقيني تاني"، ويُميّزان خطّه المفاهيمي، ألا وهما السخرية والعبث، ليس بوصفهما نقيضين للجدّ والالتزام، بل على أنهما أداة سياسية لتفكيك الخطاب، أيّاً كان منشؤه، لعلها موجّهةٌ ههنا ضد البطريركية، وهو ترند بات يُميّز جلّ الموسيقى البديلة التي تُنتجها فنانات.

يبقى أنّ ندى الشاذلي تملك صندوقاً بداخله أدواتٌ أكثر تنوّعاً، ما يجعل "لاقيني تاني" الألبوم جذاباً ومؤهّلاً لأن يحقق رواجاً نسبياً قد يخرج عن حيّز النيش (الذائقة الخاصة، Niche) مثل الشكل الذي أُنتِجت به أغنية "كعبي عالي"، الثانية وفق ترتيب التراكات، التي وإن حافظت على مضمون نسويّ مستتر في النص، فقد ميّزتها نبرة رقّة وانكسار، توجّهت بالمذكّر المخاطب، واستعارت لون البالاد المصري بعد أن طوّعته إلكترونيّاً وفق الأسلوبية المبتكرة للأصدار. كما سمحت، من خلال حبكة الفيديو كليب، بنصف ظهورٍ لعشيقٍ يقود السيارة بالفنانة، مُديراً ظهره للكاميرا. بذلك، تبقى عدستها مركَّزة عليها.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows