
انتشر مساء الخميس الماضي في مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لسيناتور ولاية كاليفورنيا الأميركية، الديمقراطي أليكس باديّا، يسحب بعنف إلى خارج موقع المؤتمر الصحافي لوزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم. مشهد لم تألفه الولايات المتحدة، أقلّه على الصُعد التنفيذية والتشريعية. الفيديو الذي يُظهر باديّا راكعاً على الأرض، قبل إخضاعه وتكبيله بالأصفاد على يد عناصر من مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي)، يُشير إلى حقيقةٍ يأبى كثيرون الاعتراف بها اليوم، لكنّهم سيفعلون ذلك بعد ستّة أشهر على سبيل المثال، وهو أن طيف الرئيس الأميركي دونالد ترامب وشخصيته باتا يتغلغلان في عمق عناصر النظام الأميركي الأمنية. في سيطرته على وزارة الأمن عبر نويم، وعلى "إف بي آي"، عبر كاش باتيل، وفي صلاحياته في استدعاء الحرس الوطني والجيش، يؤكّد ترامب أن إدارته تعمل على إظهار القوة واستخدامها وكأنّها باقية إلى الأبد، لا إلى 20 يناير/كانون الثاني 2029، وفقاً للدستور.
كل ما في أميركا حالياً مقلق لجهة السماح بتفشّي العنف المفرط تجاه سيناتور ديمقراطي، يمثّل ولايةً انتخبته، وفي مؤتمر لوزيرة في الإدارة في كاليفورنيا وأمام الإعلام. الرسالة جليّة مفادها أن إدارة ترامب، التي ألغت مسائلة أفراد الشرطة في حال مخالفتهم القوانين أثناء تنفيذهم مهامهم، والتي لم تتردّد في إهانة سيناتور، لن تتردّد في ممارسة العنف ضدّ المواطنين لترسيخ "أميركا أولاً" فقط. أساساً، سعى ترامب لكسب الجيش والشرطة والاستخبارات وكلّ جهاز إنفاذ قانون في أميركا، عبر مدحهم وتحييدهم عن كلّ تعليقاته السلبية، وصولاً إلى إعلانه عرضاً عسكرياً في واشنطن مقرّراً اليوم السبت، بمناسبة الذكرى الـ250 لتأسيس الجيش الأميركي، ويصادف أيضاً عيد مولد ترامب الـ79.
وحده من يريد تجاهل الحقيقة لا ينتبه إلى ربط ترامب شخصه بمفهوم القوة، ثمّ تهديد الجوار الكندي وغرينلاند وبنما بها، فضلاً عن ترداده مراراً أن "لدينا أقوى جيش في التاريخ"، وأنه سيبني "قبّةً ذهبيةً لحماية أميركا". في العادة، مثل تلك التصريحات التي تتجاوز سياسةً تستمرّ أربع سنوات، يُفترض أن تكون نابعةً من تفاهم بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس، وبغرفتيه النواب والشيوخ. غير أن ما يفعله ترامب يتجاوز ذلك، بما يشبه تمدّده بنفسه داخل الحزب الجمهوري، الذي حوّله في غضون سنوات حزباً تابعاً له، فيما كان قبل سنوات معدودة يهدّد بإنشاء حزب ثالث في حال لم يدعمه الجمهوريون في حملته لرئاسيات 2017. يجعل المنطق نفسه شخصاً مثل الرئيس الأميركي يتطلّع إلى التوسّع خارج الإطار الحزبي، عبر التغلغل في المؤسّسات الأميركية وتحويلها أداةً لتطبيق سياساته. وبما أن ترامب لا يملك ترف الوقت لجعل النظام الأميركي تابعاً له، فإن فكرة الاستعانة بالعسكر لم تعد مجرّد خطوة مؤقّتة.
كاليفورنيا، أهم ولاية ديمقراطية، وتُسهم بنحو 15% من اقتصاد الولايات المتحدة التي تضم 50 ولاية. تُعدّ خامس أكبر اقتصاد في العالم لو كانت بلداً، وثالث أكبر الولايات بعد ولايتي ألاسكا وتكساس، جمهوريتَي الولاء. ما الذي يعنيه ذلك؟... يعني أن كسر كاليفورنيا يشكّل مفتاحاً لكسر الولايات الديمقراطية كلّها. وبقدر ما تصمد كاليفورنيا، لا في مخالفتها قوانين أميركية أو السعي إلى الاستقلال، بل في محافظتها على الديمقراطية الأميركية، بقدر ما تضعف موجة ترامب تجاهها، واستطراداً تراجعه في مكان ما عن استراتيجية "الهجوم المتواصل". الأسوأ هنا أن تحوّل ما يُفترض أن يكون "مجرّد مداهمة" في لوس أنجليس إلى صدام بين واشنطن وكاليفورنيا لا يُفيد ما يتطلّع إليه ترامب في تطوير الاقتصاد الأميركي ولا في إصلاح "سياسات جو بايدن"، بحسبه، بل يحوّل ما كان يصوغه من "عزلة أميركية قوية" إلى بلادٍ قد يدفعها تهوّرها إلى أزمة داخلية، معرّضة لإضفاء لمسات عرقية وعنصرية عليها. هذا كلّه ولم يمرّ خمسة أشهر على بدء الولاية الثانية.
