
عربي
طاولت تداعيات العدوان الإسرائيلي جميع القطاعات الخدمية في غزة، لكن التأثير كان كارثياً على القطاع التعليمي، إذ يتواصل انقطاع التلاميذ عن الذهاب إلى المدارس للعام الثالث على التوالي.
للسنة الدراسية الثالثة على التوالي، يحرم أكثر من 785 ألف طالب وطالبة في قطاع غزة من مقاعد الدراسة، وممارسة حقهم بالتعلم، مع تدمير الحرب نحو 95% من المؤسسات التعليمية، وتداعياتها الكبيرة على المستوى الدراسي للطلبة الذين باتوا يعانون من الجهل وانتشار الأمية في ظل توقف التعليم النظامي، باستثناء بعض المبادرات والنقاط التعليمية التي لا تشكل بديلاً حقيقياً.
في إحدى النقاط التعليمية بمنطقة مواصي خانيونس جنوبي القطاع، يفترش عشرات من طلبة المرحلة الابتدائية أرضية خيمة تعليمية تخلو من المقاعد في أول أيام العام الدراسي الجديد، بينما يقبع مئات الأطفال الآخرين داخل مخيمات الإيواء القريبة من دون ممارسة حقهم في التعلم، لغياب القدرة على استيعاب أعداد أخرى منهم داخل الخيمة، بينما دمّر الاحتلال الإسرائيلي أغلبية المدراس، وتحوّلت المتبقية منها إلى مخيمات إيواء للنازحين.
بالقرب من الخيمة، كان الكثير من الأطفال في سن المرحلة الابتدائية يركضون نحو شاحنة مياه، وهم يحملون دلاءً وغالونات صغيرة، بدلاً من الركض نحو مدارسهم أو حمل حقائبهم. تقول والدة الطفل أيهم (عشر سنوات)، وهي تراقبه على مقربة من شاحنة المياه لـ "العربي الجديد": "بدأت الحرب وهو في الصف الأول، وكان يفترض أن يدرس حالياً في الصف الثالث. ابني لا يستطيع القراءة أو الكتابة، حتى الحروف يستطيع بالكاد كتابتها، وأخشى أن تطول الحرب، ويصبح أمّياً. هذا الأمر لا ينطبق على ابني فقط، بل يطاول معظم طلاب المرحلة الأساسية، والذين حرمتهم الحرب من الدراسة".
تدمير 163 مدرسة وجامعة وتضرّر بقية المؤسسات التعليمية في قطاع غزة، وحرمان 144 ألف طفل من الالتحاق بالصف الأول الابتدائي
في داخل الخيمة التعليمية الوحيدة بتلك المنطقة، كانت المعلمة وجدان أبو مصطفى، وهي نازحة من منطقة عبسان الكبيرة شرقي خانيونس إلى المواصي غرباً، تراجع دروس اللغة الإنكليزية مع الطلبة رغم درجة الحرارة المرتفعة، فالخيمة تخلو من أي مقومات، باستثناء لوح للتعليم.
تقول أبو مصطفى لـ "العربي الجديد": "الحرب أكلت عامين من عمر الطلاب، والمنظومة التعليمية أُبيدت بالكامل مع تدمير الاحتلال المدارس وتشريد الطلبة، والآن، يجلس بعض الطلبة على الأرض للتعلم، إذ لا توجد مقاعد، وهذا أمر غير صحي. كانوا قبل الحرب يذهبون إلى المدارس ببهجة، وحرموا من الملابس والحقائب والقرطاسية الجديدة. وإلى جانب تأثر المستوى الدراسي، فإن الأثر النفسي كبير بفعل الخوف والقلق، والنزوح المتكرر، ما يحرمهم حتى من الانتظام في الدراسة بالنقاط التعليمية".
منذ أشهر، تبحث ضحى الشرقاوي على نقطة تعليمية لإنقاذ أطفالها الثلاثة من براثن الأمية، وضمان التعليم بحده الأدنى. وتقول لـ "العربي الجديد": "جرّبت تعليم أطفالي عن طريق برنامج الوزارة الإلكتروني، لكن الإنترنت ضعيفة، ولم أستطع كأم لعب دور المعلمة، وهناك أعباء كبيرة تسرق وقتنا، وتحرمنا من الجلوس مع أطفالنا لتعليمهم. أضطر إلى السير لمسافات طويلة للبحث عن خيمة تعليمية، والنقاط المتوفرة تبعد عن خيمتنا كيلومترات عدة، وعندما نجد مكاناً أو معلمة، فإن العملية تنقطع بسبب تكرار النزوح".
وتضيف الشرقاوي: "كانت ابنتي متفوّقة، واستطاعت الانتظام فصلاً كاملاً في إحدى المدارس التي أشرفت عليها وزارة التربية خلال الحرب، لكن بسبب النزوح انقطعت، وابني تأثر مستواه في القراءة والكتابة، فعندما بدأت الحرب كان في الصف الثالث، وهو الآن في الصف الخامس. أتذكر كيف كنا نستقبل العام الدراسي قبل الحرب، ونشتري الحقائب والملابس الجديدة، وينخرط الأبناء في عملية تعليمية منتظمة، ونتابعهم أولاً بأول، مقارنة بعام دراسي ثالث يجلس فيه الأطفال في الخيام من دون تعلم".
وأدت الحرب أيضاً إلى تعطل آلاف المعلمين والخريجين الجدد، وبعضهم كان يعمل بنظام "المياومة" لدى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، وتوقفت عقودهم. من بين هؤلاء آية عودة التي كانت تنتظر تثبيتها بالوكالة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لكن الحرب أوقفت التعليم، وبالتالي ألغت دور التثبيت الوظيفي. وتقول لـ"العربي الجديد": "قطعت شوطاً طويلاً في التدريب خلال العمل باليومية، وكنت في انتظار قوائم التثبيت التي كان يفترض أن تصدر في منتصف شهر أكتوبر 2023، لكن الحرب حرمتني من حلمي بأن أكون معلمة مثبتة".
ورغم تطوعها للعمل في نقطة تعليمية، فإنها تؤكّد أن "الفرق بين المدارس والنقاط التعليمية كبير، إذ تختفي العوامل المشتتة في بيئة المدارس، ويركز الطالب مع المعلم، كما أن الاستراتيجيات والأساليب وإمكانات كبيرة، ما يتيح للمعلم استخدام أسلوب التعليم النشط، أو الألعاب التربوية لجذب الطالب، أما في الخيمة، فالإمكانات شحيحة، وسبل التشتيت كبيرة".
ولتنظيم المسيرة التعليمية خلال الحرب، اعتمدت وزارة التربية والتعليم مبادرات عدة لضمان استمرار التعلم، وأصدرت شهادات معتمدة للمنخرطين فيها، كما أطلقت الوزارة نظاماً تعليمياً إلكترونياً يستهدف طلبة قطاع غزة، عبر تطبيق إلكتروني يضم المنهاج وشروحات له، مع إمكانية خوض امتحانات إلكترونية، لكن كل هذه المبادرات لا تقارن بالاحتياج الكبير.
وتقول المعلمة أسماء مصطفى لـ "العربي الجديد": "نتحدّث عن أكثر من 700 ألف طفل في غزة معظمهم محرومون من حقهم بالتعليم للعام الدراسي الثالث على التوالي، وأصبحت الفجوة كبيرة بين الطلاب والعملية التعليمية، وهذا له آثار مستقبلية خطرة، إذ سيؤدي إلى تسرب كثير من الطلبة، خصوصاً المشردين والنازحين، وقد انتشرت عمالة الأطفال، وغالبية هؤلاء سيعزفون عن العملية التعليمية. إنها عملية إبادة تعليمية شاملة".
وتنتقد مصطفى فكرة التعليم الإلكتروني التي لا تراعي أن الواقع الحياتي في غزة صعب جداً، ولا تتوفر هواتف ولا إنترنت للانخراط في هذا النظام. وتضيف: "أطفال غزة جائعون، فكيف سيتعلمون ويتفاعلون مع الأنشطة؟ وتوجّه الأهالي نحو العملية التعليمية منخفض بسبب النزوح المتكرر، وظروف الحرب، وطول الانقطاع عن التعليم سيُصعّب إعادة تأهيل الطلاب مجدداً".
وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن أكثر من 785 ألف طالب وطالبة حرموا من حقهم في التعليم، إضافة إلى تعطل نحو 25 ألف معلم وكادر تربوي للعالم الدراسي الثالث على التوالي، ويؤكد مدير المكتب الإعلامي الحكومي، إسماعيل الثوابتة، أن هذه "أرقام كارثية بكل المقاييس، خاصة في مراحل التعليم الأولى، وتُنذر بتأثر مسيرة التعليم كلها، أو فقدان جيل كامل حقه في التعلم".
ويضيف الثوابتة لـ"العربي الجديد" أن "حرمان الطلبة من التعليم، خاصة في المراحل الأساسية، جريمة متعمدة بحق الأجيال الفلسطينية تهدد مستقبل المجتمع برمته. في كل عام، كانت مدارس غزة، الحكومية وغير الحكومية، تستقبل نحو 48 ألف طالب جديد في الصف الأول الابتدائي، وهذا يعني أن 144 ألف طالب حرموا من الالتحاق بالصف الأول بسبب حرب الإبادة المستمرة، والسبب الأساسي في عدم التحاق الطلاب بالتعليم هو استمرار الإبادة، والتدمير شبه الكامل للبنية التحتية التعليمية من جراء العدوان المتواصل".
ويوضح: "تضررت 95% من مدارس القطاع، ودمر الاحتلال 163 مدرسة وجامعة ومؤسسة تعليمية بالكامل، وتضررت جزئياً 388 مؤسسة تعليمية أخرى، فيما يحتاج أكثر من 90% من المباني التعليمية غير المدمرة إلى إعادة بناء أو تأهيل، من بينها 118 مدرسة حكومية، وأكثر من 100 من مدارس وكالة أونروا، فضلاً عن تعرض 662 مبنى مدرسياً لضربات مباشرة، بنسبة نحو 80% من إجمالي المدارس، واستهداف معظم المدارس التي تحوّلت إلى مراكز إيواء".
ويقول الثوابتة: "استشهد أكثر من 13,500 طالب، و830 معلماً وكادراً تربوياً، إضافة لاغتيال 193 عالماً وأكاديمياً وباحثاً، ويزيد عدد الطلبة الجرحى عن 25 ألفاً. هذا استهداف ممنهج يضرب حق الأجيال في التعلم، ويمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي. هدف الاحتلال هو تدمير الركائز المدنية الأساسية للمجتمع، بما يكرس واقع الجهل والفقر والتهجير القسري، وهذا يشكل جزءاً أصيلاً من مخطط الإبادة الجماعية".
