فون ديرلاين في عين العاصفة: بين مطرقة أقصى اليمين وسندان اليسار
عربي
منذ 17 ساعة
مشاركة
في قاعة البرلمان الأوروبي الواسعة بمدينة ستراسبورغ، جلست أمس الاثنين، رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين تحت الأضواء الكاشفة، تواجه سيلاً من الانتقادات الحادة التي انطلقت من أطياف سياسية متعارضة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. للمرة الثانية خلال بضعة أشهر، تجد فون ديرلاين نفسها في مرمى تصويت لحجب الثقة، يهدّد، حتى وإن لم يُكتب له النجاح، استقرار موقعها على رأس واحدة من أقوى المؤسسات في الاتحاد الأوروبي. منذ توليها رئاسة المفوضية الأوروبية عام 2019، برزت فون ديرلاين واحدةً من أبرز الشخصيات السياسية في أوروبا. فهي أول امرأة تتبوأ هذا المنصب، وتأتي من خلفية تجمع بين الطب والسياسة. وُلدت في بروكسل لعائلة ألمانية، وتلقت تعليمها في ألمانيا، إذ انخرطت لاحقاً في العمل السياسي ضمن صفوف الحزب الديمقراطي المسيحي، وكانت مقرّبة من المستشارة الأسبق أنجيلا ميركل، كما ترتبط بعلاقات وثيقة مع الزعيم الحالي للحزب، المستشار فريدريش ميرز. شغلت فون ديرلاين مناصب وزارية رفيعة في ألمانيا، أبرزها وزارة الدفاع، قبل انتقالها إلى بروكسل لتقود المفوضية الأوروبية. وقد عُرفت بأسلوب إداري صارم ومركزي، يعتمد على إحكام السيطرة من خلال دائرة ضيقة من المستشارين المقرّبين. هذا النهج أكسبها سمعة بأنها تمارس قيادة متحكّمة أحياناً، لا تتسامح كثيراً مع الخروج عن الخط. ومن اللافت أن فون ديرلاين لا تقيم في شقق فاخرة أو فنادق مريحة في بروكسل، بل اختارت العيش في غرفة نوم صغيرة ملحقة بمكتبها، لتكون على استعداد دائم للعمل، في ما يصفه المقربون منها بأنه "نمط حياة لا يقدر عليه سوى القلّة". بين مطرقة اليمين وسندان اليسار اليوم، بعد ما يقرب من ستِّ سنوات في هذا المنصب، تواجه أورسولا فون ديرلاين واحدة من أشد التحديات السياسية في مسيرتها؛ فالبرلمان الأوروبي الذي يُفترض أن يكون داعماً طبيعياً للمفوضية، بات منقسماً على نحو غير مسبوق. ومع تنامي نفوذ التيارات اليمينية المتطرفة من جهة، واليسار الراديكالي من جهة أخرى، أصبحت هدفاً مشتركاً لخصمين لا يجمعهما سوى استيائهما المتزايد من سياساتها. من جهة اليمين، يقود الهجوم الزعيم الشاب لحزب التجمع الوطني الفرنسي، جوردان بارديلا، الذي لا يخفي رفضه لنهج فون ديرلاين، متهماً إياها بتدمير قطاعات حيوية كقطاعَي الزراعة وصناعة السيارات، نتيجة لتشريعات المناخ والتحول الأخضر، ويصفها بأنها تخلت عن المصالح الأوروبية في اتفاقيات تجارية مع الولايات المتحدة، وبأنها فشلت في وضع حد لسياسات الهجرة غير المنضبطة، ما أسهم في تفاقم أزمات مجتمعية وأمنية في عدد من الدول الأوروبية. أما على الطرف الآخر، فالهجوم لا يقلّ حدة. النائبة الفرنسية عن كتلة "فرنسا الأبية"، مانون أوبري، اتهمت فون ديرلاين بالتهاون والتواطؤ تجاه "الإبادة الجارية في غزة". واعتبرت أن المفوضية، بقيادتها، خذلت القيم الأوروبية الجوهرية، بانحيازها الفاضح لإسرائيل، ما أضعف صورة الاتحاد الأوروبي وسيطاً عادلاً في الساحة الدولية. وختمت خطابها بدعوة صريحة للاستقالة، وهو ما كرّره اليمين بدوره... العَدوّان السياسيان في اليسار واليمين اتفقا على عبارة واحدة: "عليكِ الرحيل". غالبية مريحة ولكن... ورغم صخب الانتقادات، لا يبدو أن تصويت حجب الثقة سيؤدي إلى إطاحة فون ديرلاين في تصويت البرلمان الأوروبي الخميس. الأمر يتطلب موافقة ثلثي الـ720 نائباً أوروبياً، وهو بالتأكيد أمر يصعب تحقيقه، إذ لا تزال تحظى بدعم ائتلاف موسع داخل البرلمان، يشمل المحافظين، والليبراليين، والاجتماعيين الديمقراطيين، والخضر، على الأقل في هذه المرحلة. لكن تكرار محاولات الحجب، يشير بوضوح إلى تآكل قاعدة الدعم، حتى داخل الأطراف التي كانت تؤيدها بلا تردد قبل أشهر قليلة. واللافت أن هذا التآكل لا يقتصر على معارضيها الأيديولوجيين، بل يتسلل إلى صفوف حلفائها. فالأحزاب الليبرالية والاجتماعية الديمقراطية والخضر، التي أسهمت في إعادة انتخابها العام الماضي، بدأت تُعبّر عن مواقف أكثر حذراً. البعض اشترط تجديد الدعم بتحقيق التزامات محدّدة، لا سيّما في مجالات العدالة الاجتماعية، وسياسات الإسكان، ومكافحة الفقر، والدفاع عن حقوق الإنسان. أوروبا المضطربة... ونخبوية بروكسل في ظل تصاعد الشعبوية وتراجع الثقة بالمؤسسات، تعيش أوروبا مرحلة اضطراب غير مسبوقة. تتكاثر الأزمات من أوكرانيا إلى الطاقة والهجرة، بينما تتصاعد شكوك التيارات القومية والمتشككة إزاء تدخلات الاتحاد الأوروبي. وفي قلب هذا المشهد، تبرز أورسولا فون ديرلاين شخصيةً مثيرة للانقسام: يراها البعض قائدة حازمة وضرورية، فيما يعتبرها آخرون رمزاً لنخبوية بروكسل المنفصلة عن الواقع. من جهتها، تحاول فون ديرلاين الدفاع عن دورها، داعية إلى الوحدة، ومُحذّرة من أن الانقسام لا يخدم إلّا خصوم أوروبا، وعلى رأسهم روسيا، الساعية لزرع الفوضى داخل الصف الأوروبي. سجلات النجاح... وخدوش الثقة نجحت أورسولا فون ديرلاين في قيادة الاتحاد الأوروبي خلال أوقات عصيبة، من جائحة كورونا إلى الحرب في أوكرانيا، إذ أثبتت قدرة على الحسم وتوحيد المواقف الأوروبية. لكن أسلوبها الإداري أثار انتقادات حادة، خصوصاً في قضايا حساسة كعقود شراء اللقاحات مع "فايزر"، التي رفضت الكشف عن تفاصيلها، ما فجّر شكوكاً وأدى إلى تصويت سابق بحجب الثقة. مواقفها من الحرب على غزة زادت الطين بلّة، إذ اتُهمت بانحيازها الكامل لإسرائيل، ما أضعف صورتها قائدةً تمثل جميع الأوروبيين. ورغم ترجيحات نجاتها من التصويت الحالي، إلّا أن تكرار هذه المواجهات السياسية يضعف مكانتها تدريجياً ويهدد استقرارها مستقبلاً. السؤال الآن: هل تملك فون ديرلاين القدرة على ترميم صورتها وتوسيع قاعدة دعمها؟ أم أن رصيدها السياسي بدأ بالنفاد، في وقت لا يحتمل فيه الاتحاد الأوروبي المزيد من الانقسامات؟

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية