
عربي
ما زالت الصحة النفسية في ليبيا قضية شائكة كما هي الحال في بلدان عربية عديدة، وذلك مع عدم قدرة السلطات على الإحاطة بأوضاع الأشخاص الذين يعانون من أمراض نفسية بالطريقة المناسبة، بالإضافة إلى عوامل اجتماعية.
يعيش الليبيون المصابون بأمراض نفسية في عزلة مزدوجة، بسبب حالاتهم الصحية من جهة وبسبب الوصم الذي ما زال سائداً في المجتمع من جهة أخرى. بدورها، تبدو السلطات في ليبيا كأنّها تلتزم الصمت، فيما آلاف المواطنين يعانون من دون رعاية كافية ولا مراكز مؤهّلة لاستقبالهم وتوفير العلاج لهم.
يروي المواطن الليبي عبد المنعم الجريسي، في العاصمة طرابلس، تفاصيل رحلة طفلته المؤلمة، فهي تعاني من اضطرابات نفسية استجدّت بعد ما شهدته من اشتباكات مسلّحة في عين زارة حيث تعيش العائلة، خصوصاً المواجهات المسلّحة التي استمرّت يوماً ونصف يوم في مايو/ أيار الماضي. فالصغيرة، البالغة من العمر عشرة أعوام، تعرّضت لأصوات رصاص وانفجارات عن قرب، لا سيّما عند هروبها من منطقة الاشتباكات مع باقي أفراد العائلة عبر ممرّ وفّره جهاز الإسعاف والطوارئ لسكان الحيّ.
ولا يخفي الجريسي لـ"العربي الجديد" أنّه اضطرّ إلى بيع بيته واستئجار آخر لأشهر عدّة، إلى حين العثور على منزل جديد يناسب قدرته المالية، وذلك بسبب ما تعانيه طفلته في عين زارة، فالصدمة التي تعرّضت لها كبيرة. وعلى الرغم من انتقال العائلة إلى بيت جديد، فإنّ ابنته ما زالت تعاني من اضطرابات نفسية. ويحاول الجريسي دمجها في بيئة أخرى تنفيذاً لتوصيات الطبيبة التي تتابع حالتها، لكنّه يعبّر عن قلقه من انتكاسة محتملة في أيّ وقت في حال اندلاع اشتباكات جديدة، وهو أمر غير مستبعد في المدينة. إلى جانب ذلك، يشكو من تكاليف العلاج الباهظة في المصحّات الخاصة، وسط ذلك يعاني صعوبة استمراره في تحمل التكاليف الباهظة لعلاج طفلته في المراكز الخاصة.
في هذا الإطار، يصف الطبيب المتخصّص في الأمراض النفسية والعقلية فتح الله زروق أوضاع الأشخاص المصابين بأمراض نفسية بـ"الصعبة جداً"، في ظلّ عدم توفّر بيئة مناسبة لعلاجهم، لافتاً إلى أنّ "البيئة المجتمعية هي أفضل حاضنة لعلاج هذه الحالات". ويتحدّث زروق لـ"العربي الجديد" عن واقع المنشآت التي تُعنى بالصحة النفسية، مبيّناً أنّها "قليلة، خصوصاً تلك التي توفّر الإيواء، وذلك بسبب نقص كبير في الإمكانات"، وفي مثال على ذلك، يشير إلى مستشفى الرازي، أكبر مستشفيات البلاد المتخصصة في الأمراض النفسية والعقلية، ويوضح أنّه "متهالك وقديم، ويحتاج إلى دعم كبير في الإمكانات والكوادر"، علماً أنّ المستشفيات الشبيهة في سبها (جنوب غرب) وبنغازي (شرق) هي بحكم المتوقّفة، الأمر الذي يزيد من العبء عليه.
ويوضح زروق أنّ كثيرين من مرضاه يعانون من حالات اكتئاب وقلق مرتبطة بالحروب والنزوح، مشيراً بالتالي إلى حالات عديدة من اضطراب ما بعد الصدمة. كذلك يشير إلى حالات اكتئاب أخرى على صلة بالأزمات الاجتماعية، من قبيل فقدان الأب أو الأم نتيجة الطلاق أو اليتم وغير ذلك. وبينما يؤكد أنّ الاكتئاب، باختلاف أسبابه، منتشر على نطاق واسع بين الناس، يفيد بأنّ وزارة الصحة في ليبيا لا تملك أيّ إحصاءات رسمية دقيقة لعدد المصابين بأمراض نفسية وعقلية في البلاد، ولا للأمراض التي يعانون منها.
وكان تقرير أصدرته منظمة الصحة العالمية في عام 2022 قد بيّن أنّ ليبياً واحداً من بين كلّ خمسة ليبيين يحتاج إلى رعاية صحية نفسية أو عقلية، بسبب آثار النزاعات والحروب. وفي تعليق على ذلك، يرى زروق أنّ من الضروري، بعد ما كشفته هذه الإحصائية، أن تلتفت السلطات إلى أهمية دعم قطاع الصحة النفسية. ويتابع أنّ الفراغ المسجّل في القطاع العام، في مجال الصحة النفسية، أفسح المجال واسعاً أمام القطاع الخاص الذي لا يستطيع المواطن الاستفادة منه بصورة كبيرة، بسبب تكاليفه المرتفعة. ويطالب زروق باستراتيجية وطنية في ليبيا تضع الصحة النفسية من ضمن أولوياتها، وتوفّر التمويل والكوادر والتدريب المستمر، مع دما خدمات الدعم النفسي في الرعاية الصحية الأولية. ويشدّد على أنّ تجارب دول الجوار أثبتت أنّ الاستثمار في الصحة النفسية ينعكس مباشرة على انخفاض نسب الجريمة والعنف وكذلك على ارتفاع الإنتاجية، الأمر الذي تحتاج إليه ليبيا بشدّة في هذه المرحلة.
من جهة أخرى، يلفت الجريسي إلى مشكلة أخرى ترتبط بـ"البيئة المجتمعية التي من المفترض أن تكون حاضنة لدعم الأشخاص المصابين بأمراض نفسية وعقلية. فبدلاً من ذلك، يصم المجتمع هؤلاء وسط تحذيرات من عدم الاقتراب منهم". يضيف: "حتى المدارس التي من المفترض أن تستوعب أطفالاً يعانون من اضطرابات نفسية غير شديدة، تتعامل بدونية مع تلاميذها، بدءاً من إدارتها وصولاً إلى مدرّسيها. وفي الغالب، ينتكس التلميذ الذي يعاني من اضطراب نفسية، بدلاً من أن تتحسّن حالته"، مؤكداً أنّ "هذا ما حدث مع طفلتي التي تنقّلت بها بين أكثر من مدرسة، والمعاملة كانت نفسها حيثما ذهبنا". ويتابع أنّ "هذه النظرة تضع العائلات تحت ضغط مضاعف، إذ لا يكفيها القلق على أطفالها من الانتكاس، بل عليها مواجهة عزلة اجتماعية تدفع عدداً منها إلى إخفاء ما يعاني منه الطفل، الأمر الذي يزيد من حدّة المشكلة ويفاقم آثارها على المدى البعيد".
