الجريمة مستمرّة
عربي
منذ يوم
مشاركة
لم يعد قتل المواطنين العلويين حدثاً استثنائياً في سورية ما بعد الحرب، صار إيقاعاً يومياً يمرّ من دون دهشة. لا يمرّ يوم من دون أن يُقتل علوي أو يُختطف أو يُهان من غير محاسبة، كأنّ العدالة نفسها سُلبت القدرة على النطق. لقد تَحوّل الانتماء الطائفي خطراً متجوّلاً، والهُويَّة عبئاً يخفيه أصحابها خشية أن تُقرأ وصمةً. حادثة اغتصاب الفتاة في سلحب، في وضح النهار، الوجه الأوضح لهذا الانهيار. جريمة كهذه لا تُقاس ببشاعتها فحسب، إنما بما كشفته من خواءٍ في مؤسّسات الدولة المفترضة، ومن تفكّكٍ في الحسّ الأخلاقي العام. من هنا، تبدأ الأسئلة الكبرى التي تتجاوز تفاصيل الجريمة إلى ما هو أبعد: ما معنى الدولة حين لا تردع الظلم؟ وكيف يتحوّل القانون من ضامنٍ للحقّ إلى قناعٍ لسطوة المنتصر؟ وهل يمكن لوطنٍ يخلط بين المواطنة والطائفة أن تُبنى فيه عدالةٌ تجمع أبناءه لا تفرّقهم؟ إن المأساة التي يعيشها العلويون اليوم هي مرآةٌ عارية لانهيار فكرة الدولة ذاتها، ولحاجةٍ وطنية ملحّة إلى عقدٍ جديد يحرّر السوري من ماضيه الدموي، ويعيد تعريف المواطنة بوصفها الحقّ في الأمان قبل بقية الحقوق. من دون هذا الوعي، ستبقى البلاد معلّقةً بين أنقاض نظامٍ سقط، وأشلاء مجتمعٍ لم يتعلّم بعد كيف ينهض من دون أن ينتقم. إنها لحظة انكسارٍ أخلاقي تسبق دوماً انهيار الكيانات السياسية، حين تنفصل العدالة عن السلطة، ويتحوّل الحكم طقوساً شكليةً تُبرَّر بها الشرعية. إن أخطر ما تكشفه هذه الأحداث ليس موت القانون، بقدر ما هو موت الإيمان الجمعي بجدواه، ذلك الإيمان الذي وحده يصنع الدولة، فحين يكفّ الناس عن طرق باب الدولة، ويبحث كلٌ عن خلاصه بوسائله، تكون الدولة قد انتهت، حتى لو ظلّ علمها مرفوعاً على السارية. هذه المفارقة هي الجرح الأخطر في مرحلة ما بعد الأسد، أن يُعاقَب الانسان على انتمائه بالولادة. وبدل أن تكون العدالة مساراً للتفكيك والمساءلة، غدت أداةً جديدةً لإعادة إنتاج الكراهية، تُلبس ثوب الثأر وتدّعي الإصلاح. وفي مناخٍ كهذا، تُختزل الهُويَّات في جيناتٍ جماعية، لا في ضمائر فردية، وتصبح العدالة نفسها شكلاً آخر من الانتقام. لم يُسقط السوريون الطاغية فحسب، لقد أسقطوا معه صورةً مشوّهةً لأنفسهم كانت تحكمهم. فحين تنتقم جماعة من أخرى، فإنها في الحقيقة تنتقم من ذاتها المقهورة التي رأت في الآخر مرآةً لضعفها. إنّ التماهي بين النظام والطائفة لم يكن قَدَراً، إنه صناعةٌ سياسيةٌ دؤوبةٌ فعلتها عائلة الأسد في نصف قرن، قامت على الخوف والتوريث والتواطؤ المتبادل، حتى بات من المستحيل تقريباً تفكيك العقدة من دون تمزيق النسيج الاجتماعي بأكمله. وما لم تُفصَل العدالة عن الثأر، ستظلّ البلاد تدور في حلقة الدم ذاتها، تعاقب أشباحها بدل أن تواجه حقيقتها. من تحت ركام الحرب، ومن بين أنقاض العدالة المهدورة، ينهض السؤال الذي لا يمكن تأجيله: أيّ وطنٍ نريد أن نُعيد بناءه؟ أهو وطن الأغلبية المنتصرة، أم دولة المواطنة الجامعة التي لا تسأل ابنها من أين جاء بقدر ما تهتم بماذا يفعل؟ لقد آن لهذا البلد أن يتجاوز منطق الغلبة، وأن يبحث عن معنى جديد للانتماء لا يقوم على الدم ولا على الخوف. المواطنة الحقيقية ليست مادةً في الدستور، بقدر ما هي علاقة وجدانية بين الفرد والدولة، تقوم على الإيمان المتبادل بالحماية والحقّ والمسؤولية. حين يشعر المواطن أن كرامته مصونة بقدر ما تُصان كرامة غيره، يبدأ الوطن بالوجود حقّاً. العقد الاجتماعي الذي تحتاجه سورية اليوم ليس وثيقةً جديدة تُكتب في الدساتير، بقدر ما هي الحاجة لأنْ تكون عقداً معنوياً يُكتب في الوعي العام، يُعيد تعريف الدولة بوصفها خادمةً للعدالة. فلا خلاص من دوامة الطوائف والولاءات إلّا ببناء دولةٍ تُعامل أبناءها بالمعيار نفسه، دولة لا تُقاس فيها قيمة الإنسان بانتمائه، ولن تُبنى دولة المواطنة ما دام كل مواطن يحمل تابوتاً خفياً لاسمه، يخشى أن يُسأل عنه في نقطة تفتيش أو في مكتبٍ حكومي. إنّ العدالة الحقيقية لا تُستعاد بالانتقام، العدالة تستعاد بالاعتراف المشترك بأن الدم السوري واحد، وأن لا نجاة لفردٍ في وطنٍ غارقٍ في خوفه من نفسه.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية