
عربي
بعد غدٍ الخميس (9 أكتوبر/ تشرين الأول)، سيتوقّف الزمن الأدبي لحظاتٍ في مدينة ستوكهولم، فتوجَّه الأنظار في العالم كلّه إلى الأكاديمية السويدية وهي تستعدّ لإعلان الاسم الذي سيُتوَّج بلقب "ضمير الإنسانية". وكما في كل خريف، تكثر التكهّنات وتبقى الأعين معلّقة على بابٍ مغلقٍ وكلمةٍ مرتقبةٍ ستخرج منه. يُعلَن الاسم، فتشتعل وسائل الإعلام والتواصل عبر العالم بعبارات التهليل أو الاستنكار. لكن، ما إن يخفت الصَخب، حتى يبرز السؤال الأبديّ الذي لا يفارق الحدث: ما قيمة جائزةٍ حُرم و(يُحرم) منها مَن صنعوا ويصنعون جوهر الأدب الحديث؟ وبالفعل، فإن قائمة المنسيّين تطول عاكسةً في بعض الأحيان قصور الجائزة، لا عظمتها. فكيف ننسى عدم منحها لتولستوي، أو لبروست الذي رحل قبل أن تُدرَك عبقريته، أو لجويس الملعون بسبب تجديده، أو لفرجينيا وولف التي سبحت ضدّ تيّار العادات، أو لبورخيس الذي ضاع بين عبقريته ولعنة مواقفه السياسية، أو لبول فاليري أو إيتالو كالفينو أو غراهام غرين، أو مارغريت يورسنار التي فتحت أبواب الأكاديمية الفرنسية أمام النساء، في حين بقيت أبواب "نوبل" موصدةً في وجهها.
والحقّ يقال، لو أن القيمة الأدبية تُقاس بـ"نوبل"، لكان نصف القرن العشرين الأدبي مطموساً. فقد وُضع تولستوي، الذي كتب في يومياته: "العظمة الحقيقية لا تعتمد على الجوائز، بل على الحقيقة التي يخدمها المرء"، خارج حسابات الأكاديمية لأسباب أخلاقية وسياسية، إذ لم يُغفَر له أن يكتب بضميرٍ لا يخضع لمؤسّسة وضدّ الكنيسة. أمّا بروست، فقد عُدّ "ذاتياً أكثر من اللازم"، وجويس "فاحشاً أكثر من اللازم". بورخيس، سيّد المتاهة والرمز، فقد دفع ثمن إعجابه بديكتاتورٍ، فكان أن صرح ساخراً: "جائزة نوبل؟ كانت ستكون ترفاً لطيفاً، لكنني أظنّ أن الله في سخرية لانهائية وفّرها عليَّ". هذا وقد كشفت الجائزة، التي تدعو إلى تكريم الكونية باعتبارها معياراً للإنسانية، أكثر من مرّة محدوديتها، إذ كانت تُعيد إنتاج مركزية أوروبية في ثوبٍ أدبيّ جديد، فلم يدخل العالمُ العربيُّ السباق إلا بعد انتظارٍ طويل (نجيب محفوظ عام 1988)، بينما نالت أفريقيا من جهتها بعض الفتات مع اختيار وول سوينكا (1986) ونادين غورديمر (1991). عن هذا قال سوينكا يوماً: "نوبل ليست شهادة قيّمة، إنها لا تضيف شيئاً إلى صدق الكلمة".
يتبقى سؤال: ماذا يحدُث للأديب بعد أن يُتوَّج؟... بعد فوزه عام 1957، كتب ألبير كامو إلى أستاذه جان غْرونييه: "هذه الجائزة تعزلني عزلةً رهيبة"، هو الذي شعر أنه تحوّل رمزاً قبل أن يكتمل كاتباً، مضيفاً عبارة تلخّص وعيه خطر التقديس: "على الفنّان أن يرفض أن يكون أداةً، حتى في خدمة الخير"! وعندما فاز التركي أورهان باموق عام 2006، اختُزلت تجربته في هُويته التركية ودوره السياسي، كأنّما الأدب مجرّد مرآةٍ وطنية مجرّدة من التخيّل.
أمّا الذين لم يحصلوا على الجائزة، فهم لم يحتاجوا في الواقع إلى الختم السويدي الذهبيّ كي يخلدوا عبر الزمن. مجدهم لم تصنعه "نوبل"، بل ذلك الأثر الخفيّ الذي تتركه الأعمال الكبرى في أرواح القرّاء. كتبت وولف: "نحن لا نحيا لكي نُعرَف، بل لنمنح شكلاً لما لم يُسمَّ بعد"، وهي بذلك كانت تكتب نبوءةً عن الأدب الصامد في وجه المجد العابر. والحال أن أثر "نوبل" على المدى الطويل يبقى ملتبساً، فمَن ما زال اليوم يقرأ الأميركية بيرل باك التي فازت عام 1938؟ ومن ذا يتذكّر فريديريك ميسترال أو سولي برودوم، أول نوبليَّين؟ بينما سنبقى نتذكّر جان بول سارتر الذي برهن أنه أذكى من أن يقع في الفخّ، حين رُشِّح للجائزة عام 1964 ورفضها: "لا ينبغي للكاتب أن يُحوَّل مؤسّسة، حتى بنيله أرفع وسام"، وقد أدرك ربّما أن التكريم الأقصى قد يفسد الكتابة كونها تزهر في الهامش والشكّ. أمّا بورخيس فقد قال: "ليس هناك نجاح يساوي خلود جملة صادقة"... صدق من قال!

أخبار ذات صلة.
سورية.. ولادة وطن أم إعلان نهايته؟
العربي الجديد
منذ 6 دقائق