
عربي
في الشرق، وتحديداً في هذه البلاد العتيقة، إن المدينة التي عمرها مائة سنة تعدّ صبيّةً بين المدن. نتحمل طيشها وصخبها وارتجالاتها وحماسها، كما نتحمل بناتنا المراهقات. نقول لبعضنا ونحن نبتسم: اصبروا قليلاً. بضعة قرون وستكبر وتعقل. ونكون في الوقت نفسه مفتونين بحيويتها ونشاطها وألقها وبهائها.
تُعرف القامشلي بألقاب كثيرة كـ"عروس الجزيرة" و"مدينة الحب" وفقاً للموسيقار الكردي الراحل سعيد يوسف، و"كاليفورنيا الشرق" كما وصفتها البعثة الزراعية الأميركية في خمسينيات القرن الماضي، إضافة إلى لقب "باريس الصغرى" لرمزية بناء الفرنسيين المدينة.
هذه المدينة العاشقة للحياة والإخاء، تعلو فيها أصوات أجراس الكنائس وصدى الأذان. تتراقص مع الأعياد القومية للكرد في النوروز والآشوريين في الأكيتو. تجمع القوميات والأديان في خيم العزاء وصالات الأفراح. جمعت شوارعها وأحياؤها أبناء شمال وجنوب ووسط المدينة. لتتحوّل المدينة إلى نموذج فريد في الأزياء المزركشة للكرديات، والعبيّ للعربيات، والموديرن للسريانيات الآشوريات. تجد كل النماذج والستايلات الكاجوال والكلاسيكي والعصري، بدءاً من العكال والشماغ مروراً بالشال والشاب، ووصولاً إلى أحدث صراعات الموضة. هي حقيقة سورية المصغرة، التي تحتوي على الكرد والعرب والسريان والأشوريين والشراكسة والأيزيديين والمسيحيين والمسلمين. تتشابك العادات والتقاليد المختلفة معاً. وعلى ضفاف نهر جقجق والآبار الزراعية، تبدو الحقول كممر أخضر تلعب بها أمواج الرياح.
قامشلو/ قامشلي/ زالين. مدينة واحدة وتسميات كثيرة لشعوب عديدة، أسرة واحدة ولغات متنوعة، عادات وتقاليد متسقة ومتداخلة في بعضها البعض. وهي مدينة تمازج وتحاور الحضارات والثقافات بنزعتها الإنسانية.
قُتل "عباس عباس" من عشيرة دوركان، لتجتمع العشائر الكردية والعربية وتنتقم من القوات الفرنسية
ظروف النشوء
بعد هزيمة الصفويين في معركة جالديران عام 1516، بسط العثمانيون سيطرتهم على كامل الجغرافيتين السورية والعراقية، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918. وفي عام 1922، أصبحت الجزيرة الوسطى (الجزيرة السورية) تحت الاحتلال الفرنسي والتي تقع مدينة القامشلي في هذا الجزء من الجزيرة. وشهد أول استقرار بشري في الألف الثامن قبل الميلاد، وأول حضارة ظهرت تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد وهي حضارة تل حلف-واشوكاني في سري كانيه\رأس العين.
ولا تزال سكّة قطار الشرق السريع، والتي مدتها ألمانيا عام 1917، من حلب إلى نصيبين، موجودة، محطتها القديمة في قرية "تل زيوان" الحدودية موجودة. والتي قسمت المنطقة إلى "بن خت" أي القاطنين جنوب خط القطار، و"سر خت" أي من بقوا في شمال الخط الحديدي. وإلى ما قبل ذلك الترسيم، كانت المدينة تتبع تاريخياً لولاية ماردين، والتي لا يفصل بينها سوى 60 كلم فقط، و2 كلم عن نصيبين، وتبعد عن بلدة عين دارا الأثرية 30 كلم، والأخيرة تبعد عن عامودا 6 كلم فقط. في عام 1922، أحكمت فرنسا سيطرتها على الجزيرة الوسطى، بقيادة الملازم ترييه، وجعلت من الحسكة قضاءً ملحقاً بمتصرفية دير الزور.
في 1923 أنشأت فرنسا قضاء بياندور، وهي قرية كردية تقع شرق قامشلو 20 كلم، وعُين "روغان" قائداً عسكرياً عليها. ومارس استفزازات واعتقالات عديدة للشيوخ والوجهاء، وأودع البعض منهم في سجن دير الزور، منهم يوسف حسو مختار القرية، وأحمد أغا اليوسف زعيم عشيرة الكاسا، رداً على قتل الأهالي للقائم مقام "سالم نوح". خلال تعذيب روغان للأهالي، قُتل "عباس عباس" من عشيرة دوركان، لتجتمع العشائر الكردية والعربية وتنتقم من القوات الفرنسية. وقد حاصرت القرية وحرقت المخفر، واستغلت فرصة خروج عدد من الجنود الفرنسيين وروكان في جولة حدودية، لتقتل أعداداً كبيرة من الجنود الفرنسيين، إضافة للقائد العسكري روكان خلال عودتهم من جولتهم. ليقع الاختيار على القامشلي مركزاً عسكرياً رئيسياً للحامية الفرنسية عام 1925، خاصة مع خلوها من القوى المحلية المعارضة للوجود الفرنسي، في حين أن العوائل الموجودة وصاحبة الأراضي كانت ذات أحجام صغيرة لا تقوى على مواجهة الفرنسيين. ولقربها من أسواق نصيبين، وأهمية سكة الحديد.
وقد يستغرب بعضهم من القول إن نهر الجقجق ينبع من نبعين في تركيا، الأبيض والأسود. يقعان في جبل طور عابدين أو جبل باكوك، ويعرفان باسم (بالوسة) يلتقيان معاً مكونين نهرج الجقجق، الذي له دور وأثر مباشر في تأسيس المدينة، ويُقسمها لقسمين شرقي وغربي. طوله مائة كلم ضمن الأراضي السورية في الحسكة والقامشلي. عُرف هذا النهر في عهد الرومان أولاً باسمي "مكدونيوس" و"ساكوراس". وفي عهد الفتوحات الإسلامية عُرف باسم "هرماس" ولاحقاً باسم "جقجق".
في بداية الثلاثينيات، بنى الفرنسيون على النهر جسراً حديدياً ضيقاً يتسع لسيارة واحدة فقط، يصل قسمي المدينة بعضهما ببعض. بقي حتى بداية الستينيات، حيث أزيل وبني مكانه جسر عريض من الإسمنت المسلح، ثم مع توسعة المدينة بُنيت جسور أخرى.
كانت للنهر أهمية ودور في الموارد الزراعية لسقاية الخضار والقطن والرز حول مجراه، والقرى المجاورة له. وشكلت مياهه خزّاناً لآبار شرب المدينة، قبل أن يتحوّل مجراه إلى مكبٍّ للصرف الصحي، وتحويل تركيا منذ بداية الخمسينيات مجراه نحو أراضيها. وبالفعل، بنت الحملة الفرنسية ثكناتها على ربوة من الجهة الشمالية الغربية للمدينة الحالية، وبنت مكاتب إدارية وسرايا وسجوناً. ثم بدأت حركة التطور والاستقرار فيها.
أطلق التسمية الملازم تيريه، رغم رغبة بعضهم بإطلاق تسمية "مقصبة" عليها، لكنه أصرّ على القامشلي
التطوّر العمراني
في بداية الأمر، سكن الناس في الخيم والأكواخ المصنوعة من القصب المنتشر حول نهر الجقجق. وهم يزاولون حياتهم في البيع والشراء. مع بناء وحيد يعود إلى آل علي بك قدورك ومطحنتهم المائية على النهر. ومع الاستقرار والأمن الذي فرضه الفرنسيون ازدادت نسبة المستقرين في المدينة، والعمل في الزراعة. في 1928 وبعد تخطيط الحدود السورية التركية. جعل من الجزيرة السورية قضاء مستقلاً سمي (قضاء عين ديوار) وكان لا يزال حينها داخل الأراضي التركية. وبعد زيادة المساحة المأهولة بالسكان، وزيادة عدد القرى تم فصل الجزيرة عن دير الزور. وجعلها متصرفية مُلحقة بالعاصمة دمشق. وفي عام 1930 تحولت الجزيرة إلى متصرفية بذاتها، ومدينة الحسكة قاعدة لها، وتم تعيين نسيب الأيوبي أول متصرف رسمي عليها. وكانت الجزيرة تتألف من قضاءين هما عين ديوار القريب من جزيرة بوتان على نهر دحلة، وقضاء قامشلي على نهر جقجق، والتي تأسست قائمقاميتها في فبراير/ شباط 1927 وأحدثت محكمة البدايات في القامشلي عام 1944.
وتُعتبر تلة "البدن" من أبرز المناطق الأثرية. تقع إلى شمال غرب المدينة. ويعتقد أنها كانت مدينة نصيبين القديمة. تعرّضت لهزّات أرضية مدمرة. وبفعل التقسيم والترسيم الدولي للحدود، وقعت ضمن الأراضي السورية، والقسم الآخر في تركيا، والذي هو نصيبين الحالية. وفيها الكثير من المدفونات الأثرية القديمة، وبعض الأعمدة والجدران اليونانية والرومانية، وهي كل ما بقي من عظمتها. في حين تعرّضت لكل أشكال التخريب والإهمال في الجانب السوري. والربوة التي بنيت عليها الثكنة الفرنسية هي بالمحاذاة منها، ويعتقد أنها كانت مقبرة لموتى العائلات المالكة لليونانيين والرومان والنصيبيين، ووجدت فيها الكثير من الحجارة الضخمة المنحوتة على شكل توابيت حجرية مع حجارة مسطّحة كانت تستخدم غطاء لهذه التوابيت واكتشفت فيها أنفاق وممرّات عديدة يعتقد أنها كانت تتصل بمدينة نصيبين القديمة.
تسمية المدينة
أطلق التسمية الملازم تيريه، رغم رغبة بعضهم بإطلاق تسمية "مقصبة" عليها، لكنه أصرّ على القامشلي، وهي كلمة كردية مشتقة من نبتة القاميش التي تنبت على ضفاف النهر. وشهد سبتمبر/ أيلول 1926 مع وصول تعزيزات لبناء مبنى البريد العسكري. كرّس تيريه جهوده لإنجاز مشروعه لبناء وتخطيط القامشلي. وفي 24 من الشهر نفسه خطّط على الضفة الغربية للنهر، مستطيلاً يمثل مركز مدينة المستقبل، وسيكون في ما بعد المكان الرئيسي لسوق القامشلي، حيث سيتم التنظيم ويقول: "خطّطتُ الشوارع بمساعدة عجوز طيب وفضولي، وكان عالماً بالمساحة. كنا قد صنعنا حبلاً طويلاً، نضع عليه الأوتاد كي نحدّدها بالمخطط. كان ذلك عملاً أولياً، كنتُ صنعت مخطّطاً جميلاً على الورق، عليه شارع واسع مركزي في الأعلى والذي يجب أن يكون العمود الفقري لمدينة الغد. وحددت عرض الشارع، ولتنفيذ ذلك نجح تيريه في تشكيل لجنة ممن وافقوا على بيع أراضيهم بنظام المقاسم (40*40) متر مربع. وغالبية الأراضي كانت للسيد رفيق نظام الدين ونجله عبد الباقي، واللذين تنازلا عن مقاسم للحكومة السورية مجاناً لبناء السراي والمنشأة الحكومية، وفعل ذلك أيضاً قدور بك على الضفة الشرقية للنهر. وكان للشخصين مع الملازم تيريه الفضل والعامل الحاسم في نجاح المشروع".
وتم الشروع ببناء المنازل في أكتوبر/ تشرين الأول 1926، وبشكل بسيط كما كان دارجاً في المنطقة، من اللبن الأحمر والطين، ما منح المدينة طابعاً ريفياً وهندسياً معاً. ومن أوائل الحاصلين على منزل مكافأة لهم على خدماتهم كان (جورج معمار باشي) التاجر المسيحي المتعهد للثكنة الفرنسية والذي بنى أول منزل في القامشلي على مقسم أهداه تيريه. وبلغ عدد المنازل 12 منزلاً و30 محلا تجاريا حتى شتاء 1926. وفي ربيع 1927، جرى إنشاء أول مؤسسة إدارية واختيار عبد الرزاق جلبي خلال عامي 1927-1928 أول رئيس للبلدية. وفي 1927 استقرّ علي شعيب، السكرتير العام السابق لمتصرفية دير الزور، ليصبح أول قائمقام. وبعد ذلك، جاء موظفون آخرون من دير الزور للعمل في المدينة. وأصبح بذلك قضاء شمال الجزيرة العليا أمراً إدارياً واقعاً. لتزداد أعداد المحلات التجارية فيها. ومع نهاية 1927 بلغ الوجود البشري حوالي ثلاثة آلاف نسمة. ونجحت القامشلي في جذب كثيرين من سكّان نصيبين الحالية للتجارة والعمل، يأتون من الطرف الآخر من الحدود ليشتروا ضرورياتهم وحتى الكماليات. وفي المساء، تنير القامشلي أنوارها، وتضيء عنان السماء حتى على بعد 80 كلم. ووجدت فيها ثلاثة مقاهٍ للغناء والرقص والعروض الفنية، يسعى إلى مشاهدتها كل الكرد الذين يسكنون الجوار ويجلسون على الكراسي مستندين إلى بندقياتهم.
اعتمد هذا النجاح السريع للقامشلي على جانبين أساسيين في تاريخ الجزيرة المعاصرة، أولهما هجرة السكان من تركيا، خصوصاً اليهود والمسيحيين، ومن جهة أخرى الظروف الاقتصادية المناسبة المرتبطة بالتطوّر الزراعي والتهريب بين سورية وتركيا، أتاح المجال لكل من كان يتردّد منذ 1922، لتتطور الأمور وتظهر طبقة ذات علاقات وتبادل تجاري مع البدو المجاورين في الجزيرة السورية، ساهمت في تطوير سوق محلي على طول الحدود السورية لتركيا وبولادة القامشلي نجح المشروع الفرنسي الرامي إلى تحقيق تماسك الجزيرة السورية.
على الرغم من الانقسام السياسي، استمرّت مظاهر الحياة المشتركة: الأسواق ظلت تجمع مختلف المكوّنات، والمناسبات الدينية والقومية
في حكم "البعث" ثم الثورة
مع وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963، دخلت القامشلي مرحلة جديدة اتصفت بالرقابة الأمنية المشدّدة والتهميش التنموي. ورغم أهميتها الاقتصادية والزراعية، بقيت المدينة بعيدة عن مشاريع التنمية المركزية، بينما عانت مكوّناتها، خصوصاً الكرد، من سياسات التمييز وسحب الجنسية والإقصاء الثقافي. تحوّلت المدينة إلى فضاء مراقَب أمنياً، تُرسم حدود الحركة السياسية والاجتماعية فيه بدقة، مع إبقاء التنوع القومي والديني تحت مظلة السيطرة الصارمة.
رغم آثار التهميش والصراعات السياسية، حافظت القامشلي على طابعها التعدّدي. واستمرت المكوّنات الكردية والعربية والسريانية والآشورية تتقاطع في الأسواق، المناسبات الاجتماعية، والعلاقات اليومية. صحيح أن التوترات السياسية انعكست أحياناً على العلاقات، لكن الروابط الاجتماعية والعائلية بقيت عامل تماسك، لتظهر المدينة في كثير من لحظاتها وكأنها أسرة كبرى متنوّعة.
ومع انطلاق الثورة السورية عام 2011، شهدت القامشلي تفاعلات متباينة بحكم تركيبتها المتعددة قومياً ودينياً، فبينما خرجت تظاهرات سلمية في بدايات الثورة، سرعان ما اتسم المشهد بحذر شديد نتيجة الوجود الأمني الكثيف وهيمنة الأجهزة التابعة للنظام. في الوقت نفسه، برز الحراك الكردي بشكل أوضح من خلال المطالبة بالحقوق القومية.
حافظت القامشلي على خصوصيتها مقارنة بمدن سورية أخرى؛ إذ بقيت مؤسّسات النظام قائمة جزئياً (المطار، المربّع الأمني)، في حين تداخلت معها سلطات الإدارة الذاتية، ما جعلها نموذجاً للتعايش القسري بين سلطتين. وعلى الرغم من الانقسام السياسي، استمرّت مظاهر الحياة المشتركة: الأسواق ظلت تجمع مختلف المكوّنات، والمناسبات الدينية والقومية (نوروز، الأكيتو، الأعياد الإسلامية والمسيحية) بقيت ساحات لإبراز التنوع وتخفيف آثار الانقسام وتُضاء الكنائس في أعياد الميلاد والفصح، وترتفع المآذن في رمضان والأعياد الإسلامية. وفي جميع هذه المناسبات، يتشارك السكان التهاني والحضور، ليجعلوا من المدينة فضاءً مشتركاً تتقاطع فيه الرموز والطقوس المختلفة، رغم كل الانقسامات السياسية. وهكذا، مثّلت القامشلي خلال الثورة صورة مكثّفة عن التناقض السوري العام: صراع سياسي وأمني من جهة، وإصرار اجتماعي على التعايش من جهة أخرى.
تتبع القامشلي إدارياً نواحي تل حمس، وعامودا وتربسبي. ويسكنها نحو 800 ألف نسمة وفقاً لإحصاء عام 2007، والتي لم تشمل المجردين من الجنسية ومكتومي القيد، والذين يقارب تعدادهم نصف مليون نسمة.
لم تكن القامشلي مجرّد مدينةٍ خُطّطت على ضفاف الجقجق، بل تحوّلت خلال قرن تقريباً إلى رمزٍ للتنوّع السوري وإحدى أهم بوابات الجزيرة إلى المستقبل. احتفالها بمرور 99 عاماً ليس استذكاراً للتاريخ فقط، بل هو تأكيد لإرادة أهلها في صون تنوّعهم الثقافي والاجتماعي، ومواصلة البناء رغم ما مرّت به من أزمات. فكما وحّدت القامشلي قلوب أبنائها عبر العقود، فإنها اليوم مدعوّة إلى أن تظلّ نموذجاً للتعايش والتجدّد، مدينةً تعانق ماضيها لتصوغ مستقبلها.

أخبار ذات صلة.

ستارمر المأزوم يبحث عن خلاصه في الهند
العين الإخبارية
منذ 4 دقائق

عاما إبادة غزة يهزّان صورة إسرائيل في الغرب
العربي الجديد
منذ 36 دقيقة

شمال سيناء شاهدة على عامين من حرب غزة
العربي الجديد
منذ 36 دقيقة