عربي
في أرضٍ انطلقت منها شرارة الفكر، وتفتّحت فيها مدارس الفلسفة وعلوم الحساب والطب والهندسة، حيث كتب فيلسوف العرب الأول يعقوب بن إسحق الكندي عن العقل، وسار الفارابي في دروب المدينة الفاضلة، وأرسى الخوارزمي قواعد الجبر، وابتكر ابن الهيثم منهج التجربة، كانت بغداد، في زمن مضى، قلباً نابضاً بالعلم، وعقلاً مفتوحاً على العالم.
وبعد قرابة ألفٍ ومئتي عام، أُقيمت في بغداد ندوة علمية بتنظيم مشترك بين الجامعة الأميركية ومنظمة "إيريكس"، جمعت طيفاً واسعاً من الباحثين وطلبة الجامعات. كنت أحد المشاركين فيها، وألقيت كلمة أردت من خلالها أن أضع إصبعي على الجرح الذي كثيراً ما يُلتفّ حوله بخطابات إنشائية؛ وهو أن جوهر الأزمة في العراق اليوم ليس سياسياً فحسب، بل هو أزمة تعليم وثقافة أولاً. ورغم شيوع المصطلحين في الخطاب العام، إلا أن معناهما الحقيقي لا يُدرك إلا عند الغوص في البنية العميقة للعقل الجمعي العراقي.
جوهر الأزمة في العراق اليوم ليس سياسياً فحسب، بل هو أزمة تعليم وثقافة أولاً
فالتعليم، حين يُختزل في أوراق جامعية، ويتحول إلى وسيلة لتجاوز البطالة لا لتشكيل العقل، يصبح بلا روح. والثقافة، حين تتجرد من وظيفتها النقدية، وتتحوّل إلى أداءٍ شكلي أو استعراض لغوي، تفقد قيمتها كمحرك للتغيير. فالمثقف، في صورته الأصيلة، ليس من يرتدي نظارة سميكة أو يحفظ مقطوعات شعرية، بل من يحسن التمييز، ويمتلك أدوات الفهم، ويعيد طرح الأسئلة دون خوف. والمتعلم ليس من يملأ رأسه بالمعلومات، بل من يُدرب نفسه على التفكير المنهجي، والتأمل في العلاقات السببية للظواهر من حوله.
ومن هذا المنطلق، يمكن قراءة العجز السياسي الذي يعانيه العراق، لا كخلل في النخبة الحاكمة وحدها، بل كنتيجة منطقية لضمور العقل الجماعي. فالحكومات هي انعكاس لوعي شعوبها؛ وإذا كان الاختيار مبنياً على انتماء ضيق، أو مصلحة آنية، أو جهلٍ بالحقوق، فإن الناتج لا يمكن أن يكون إلا شكلاً آخر من هذا الوعي المشوش. وما دام المواطن لم يتربَّ على النقد، ولم يتعلم كيف يُقيم ويُحاسب، فإن أدوات السياسة ستبقى حكراً على غير المؤهلين لها.
يمكن قراءة العجز السياسي الذي يعانيه العراق، لا كخللٍ في النخبة الحاكمة وحدها، بل كنتيجةٍ منطقيةٍ لضمور العقل الجماعي
إن التعليم والثقافة – حين يكونان فاعلين لا زينة – هما الأرض التي تُنبت المواطن المسؤول، والمفكر النزيه، والسياسي الواعي. وفي ظل غيابهما، تفرغ السياسة من معناها، وتتحول إلى صراع مواقع لا صراع أفكار. ومن هنا يبدأ الخلل ويتعمق؛ إذ يتحول الفعل السياسي إلى آلية لإدارة الأزمات لا حلها، وإلى ممارسة للسلطة لا إنتاجٍ للوعي.
ولعلّ أعظم ما ينبغي استعادته اليوم هو الإيمان بأن أدوات البناء لا تستقيم إلا بوعيٍ حقيقيّ يتجاوز الانفعال اللحظي والشعارات العابرة. إن إعادة الاعتبار للتعليم والثقافة ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورةً وجوديةً لمجتمعٍ يعاني من اختلالٍ في وعيه السياسي وتكلّسٍ في مداركه الاجتماعية. فحين يتحوّل التعليم إلى صناعةٍ للعقل، والثقافة إلى نظامٍ للتفكير، يمكن عندئذٍ أن نعيد النظر في إنتاج السياسة، لا باعتبارها سلطةً فوقيةً تُفرض من الأعلى، بل كمحصّلةٍ طبيعيةٍ لوعيٍ جمعيّ ناضج.
إن العراق، بما يحمله من تاريخ معرفي وفلسفي عميق، لا يفتقر إلى الإرث، بل إلى قراءة هذا الإرث بعين معاصرة، توظّفه في فهم الحاضر لا في التغنّي بالماضي. وهنا تكمن المفارقة المؤلمة: بلد كان يوماً ما مركز إشعاعٍ عقلي للعالم، أصبح عاجزاً عن إنتاج عقل سياسي ناضج، لأن جذور المعرفة فيه قُطعت، أو أُفرغت من معناها الحقيقي.
لذلك، فإن معركة التغيير في العراق ليست معركة صناديق اقتراعٍ فحسب، بل معركة مفاهيمٍ تمّت إساءتها أو تجويفها من الداخل. فمتى استعاد المجتمع العراقي فهمه الحقيقي للتعليم بوصفه محرّكاً للعقل، وللثقافة بوصفها بنيةً للوعي، ستبدأ التحوّلات السياسية والاجتماعية بالظهور، لا كنتيجةٍ مباشرة، بل كمحصّلةٍ منطقية لمسارٍ طويل من إعادة البناء.
ليس المطلوب أن نحلم بوطن مثالي، بل أن ندرك أن تحقق هذا الوطن لا يتم إلا عندما نملك أدوات إنتاجه: عقل ناقد، وتعليم رصين، وثقافة لا تخشى مساءلة ذاتها.
أخبار ذات صلة.

عاما إبادة غزة يهزّان صورة إسرائيل في الغرب
العربي الجديد
منذ 11 دقيقة

شمال سيناء شاهدة على عامين من حرب غزة
العربي الجديد
منذ 11 دقيقة