
عربي
يمكن للقارئ أن يتتبّع في كتاب "فدريكو فلليني" (دار خطوط وظلال، 2025/ ترجمة أمين صالح)، وهو حوار مطوّل أجراه الناقد جيوفاني جرازيني في بدايات الثمانينيات، الطريقةَ التي فكّر فيها المخرج الإيطالي في أفلامه، أو أسلوبه في استدعاء الأحلام ومنحها لغة سينمائية.
يساعد الحوار فلليني على عرض وجهات نظره في شؤون الفن والحياة، كما يستحضر طفولته ومراهقته وشبابه الأول وذكرياته مع الأفلام، وهو يساعده لأنه أساساً ليس شخصاً يميلُ إلى الثرثرة، واللغة التي يعتدُّ بها هي لغة الصور.
عندما أُجري هذا الحوار، كان فلليني في الرابعة والستين من عمره، يقتبس في وصف الشيخوخة عن سيمون دي بوفوار بأن "الشيخوخة تمسك بالمرء على نحو مباغت".
ومع هذا الوصف لرجل على أبواب الشيخوخة، يجد فلليني نفسهُ شاباً في السابعة عشرة من عمره، مع قوّة الإلهام التي تتأتّى من البراءة ومن الجمال، ومن الذكريات التي يضيع زمنها ويتداخل. والحوارات هنا تظهر رجلاً على أبواب الكهولة يراقبُ ذلك الشاب من غير أن يعظه، يسردُ ذكرياته معه أو ما تبقّى منها فقط.
يرى الأفضلية للموضوعات الأصلية المكتوبة مباشرةً للسينما
أكثر ما يتساءل المرء عند قراءة حوار مع مخرج سينمائي، أو مع فنّان أو شاعر، هو طريقه إلى الإلهام، طريقته في التقاط المخيّلة، في الاستحواذ على ما هو غير مدرك. وفي الحوار، يتتبعُ القارئ عدّة أساليبٍ تصوّر مخرجاً يمضي أوقات فراغه في رسم اسكتشات يدعوها "خربشات"، وهي لسمات وجوه، وتفاصيل لباس، وأجساد وتعبيرات. تلك طريقة فلليني في استلهام الأفكار، لا الكلمات ولا الأحاسيس، إنّما تتبّع ذلك الخيط في الميثولوجيا الإغريقية الذي سيخرجه من المتاهة. الإلهام لديه مضيٌّ واهتداء، مع تسليم عبثي بوصولٍ ما. حتى في سرده لتتالي أفلامه، تظهر لحاقاً بخيط داخل متاهة: فيلمه إمّا نتاج مخيلة، أو حلم، أو سفر في الذاكرة. ووفق تعبيره: "متاهة لها مخارج لا متناهية، لكن ليس لها غير مدخل واحد فقط، والمعضلة الحقيقية ليست في الخروج، إنما في الدخول".
أيضاً، لا يعتدّ فلليني بالأدب لغةً للسينما، ويرى الأفضلية للموضوعات الأصلية المكتوبة مباشرةً للسينما، التي تحتاج إلى كتّاب سيناريو فقط يلتقطون "الإيقاعات الجوهرية للفيلم".
في الحوار مع فلليني، يعثر القارئ على مخرج يصف العمل بأنه "سترة مدرّعة"، ساعدته على الهروب من مواجهة إحساسه بالعجز. مع ذلك، لا ينظّر فلليني لعمله، ولا يدّعي ذلك التنظير المدرسي؛ إنه ببساطة حقّق الأفلام التي حققها لأنه لم يكن يجيد فعل أمرٍ آخر. والأعمال التي أنجزها كانت موجودة باستمرار، تنبثق وتتشكل ما إن تأتي لحظتها. وما جهده بوصفه مخرجاً إلّا العمل على التعرّف عليها، وتمييزها، والقبول بها.
إلى درجة يظهر الممثلون في أفلامه كما لو أنهم ينطبعون فوق ذكرياته هو، ينحّونها، ثم يمحونها. والكتاب تصويرٌ لمسير ذلك المحو الدائم للذكريات، والبحث عن غيرها، على امتداد ثلاثين عاماً من تجربته.

أخبار ذات صلة.

6 مشروبات تُخفض مستويات السكر في الدم
الشرق الأوسط
منذ 15 دقيقة