
عربي
توفي التشكيلي الفلسطيني فتحي غبن في قطاع غزة. والناس لا يموتون في غزة بل يُقتلون، وهو قُتل لأنه تقدّم في السن. والناس يتقدّمزن في السن لكنهم يموتون على أسرّتهم أو في المستشفيات، وبين أولادهم وأحفادهم، لكن غبن، التشكيلي الفطري الذي يعتبر من كبار التشكيليين الفلسطينيين، لم يجد هذه الفسحة الأخيرة والكريمة بأن يموت على سريره وبين محبيه، بل قُتل لأن غزة التي تتعرّض للقصف، للإبادة غير الرحيمة، أصبحت بلا أوكسجين، ولو راجعت مستشفياتها كلها لن تجد ما يكفي من أوكسجين لرئتي غبن اللتين لم تعودا تعملان.
لم تكن إبادة جماعية للغزّيين وحسب، بل إبادة صحية أيضاً، كما كانت إبادة ثقافية، وكان الفنان العجوز الذي عُلّقت لوحاته في متاحف العالم، بجسده النحيل، يريد أن يتنفس وحسب. كان يصرخ: أريد أن أتنفس، بينما كان رفاقه ومحبوه يوقعون البيانات ويراسلون المنظمات الدولية لتضغط على إسرائيل للسماح للفنان السبعيني بالخروج من "المسلخ" للعلاج، ولكن من يقتل الأطفال، ويقصف حتى المقابر، لم يكن معنياً بالرسام الذي وثّق بلوحاته سيرة الفلسطينيين في هذا العالم، وطرّز ثياب نسائهم في لوحاته بحدأب الأمهات، وترك "البرتقال الحزين" يضيء عتمة حياتهم في لوحاته، فإذا هو يشرق كوعد قيامة تأخرت.
توفي فتحي غبن، بل قُتل، في فبراير/ شباط 2024، عن 77 عاماً. دمر الإسرائيليون بيته وما تبقى من لوحاته، كما قتلوا نجله وأحد أحفاده، ولم يكن ذلك قتلاً وحسب بل إبادة لكل من يتنفس في قطاع غزة أو لا يتنفس من إرث ثقافي هناك.
تنتهي الحرب! بل العدوان، فالصراع لا يتوقف على الأرض بل يشمل حتى المصطلحات، كما يشمل الاستعارات الكبرى والصغرى أيضاً. ينتهي العدوان إذا انتهى، ليتكشّف عمق الحفرة التي أُلقي فيها الفلسطينيون كأنما أريد لهم أن يعيشوا في أكبر قبر مفتوح على السماء، بلا أي متعلقات، أو لُقى، أو تذكارات صغيرة أو كبيرة تركوها وراءهم. كأنما أريد لهم أن يذهبوا إلى ما قبل الطين حين تشكّل فصار إنساناً. كأنما أريد لهم أن يعودوا عرايا من كل شيء، بلا هوية يطرقون بها الخزانات الكثيرة التي يعيشون فيها ويتنقلون من خلالها بين قبر وآخر.
تنتهي الحرب بل العدوان أو لا ينتهي، فيُسمع الطَرْق العنيف من داخل الخزّان: نحن هنا، وهذا ليس إنشاءً بل إعلان يتكرر ويكرره الفلسطينيون منذ جاؤوا إليهم من وراء البحار.
وما يحتاجونه الآن أن يحصوا قتلاهم وأن يرمموا حياتهم ليظلوا "هنا"، ومنها هويتهم الثقافية، فقد وثقت وزارة الثقافة الفلسطينية ومؤسسة الدراسات الفلسطينية ومنظمة القلم الأميركي، ما يمكن اعتباره بلا أدنى تردّد إبادة ثقافية حقيقية تعرّض لها قطاع غزة، واستهدفهت إرث الفلسطينيين: أكثر من 47 كاتباً وفناناً قُتلوا بحسب وزارة الثقافة، ويرتفع العدد وفقاً لتقرير منظمة القلم إلى نحو 150 "شخصية ثقافية"، إضافة إلى عشرات المتاحف والمكتبات والمساجد الأثرية والمواقع التراثية والجامعات.
ماذا على الفلسطينيين أن يفعلوا الآن؟ أن ينتقلوا من التوثيق إلى الترميم واستعادة الوجود الثقافي، ما يحتاج إلى ورشة ضخمة يشارك فيها مانحون ومؤسسات ثقافية إقليمية وعالمية، لإعادة النهر إلى مجراه، والهواء إلى سماء غزة، ليتنفس عبد الفتاح غبن، والعشرات من الكتاب والأكاديميين الغزّيين الذين قتلوا في حرب الإبادة متعددة المستويات التي شُنت عليهم.
يتطلب الأمر حملات إقليمية ودولية، مراسلات للجامعات الكبرى في المنطقة والعالم، خطط ترميم محكمة بتفاصيل تشمل التكاليف وعدد المشاركين في ورشات إزالة الأنقاض عن الإرث الإنساني في قطاع غزة، وإعادة بناء ما دمره العدوان الوحشي، ودراسات وبوسترات عن كل موقع أثري، كل مسجد، كل كنيسة، كل تشكيلي وكاتب، وكل لوحة ومخطوطة كتاب أثري.
وهذا جهد كبير لا يستطيعه الفلسطينيون وحدهم، فأولويتهم ستكون لمن بقي على قيد الحياة، ما يملي على المنظومة العربية والمنظمات الدولية ومنها "يونسكو"، أن تتقدّم مشهد التصدي للإبادة الثقافية، وما يُحزن أنك لا تستطيع ان تطالب الجامعة العربية بذلك، ولا السلطة الفلسطينية أيضاً، فمن استقال من دوره ومن تقاعس عن واجبه والآلاف يُقتلون في جواره، لن يقوم بذلك إذا انتهت الحرب بل العدوان، وأقصد الإبادة.

أخبار ذات صلة.

ستارمر المأزوم يبحث عن خلاصه في الهند
العين الإخبارية
منذ 11 دقيقة

عاما إبادة غزة يهزّان صورة إسرائيل في الغرب
العربي الجديد
منذ 43 دقيقة

شمال سيناء شاهدة على عامين من حرب غزة
العربي الجديد
منذ 43 دقيقة