"تردد" يسرا الهواري... تأمُّل وارتياب
عربي
منذ 3 أيام
مشاركة
تعود الفنانة المصرية يسرا الهواري بألبومها الثاني "تردد"، بعد سبع سنوات من إطلاق ألبومها الأول "نقوم ناسيين"، الذي مثّل بياناً فنياً طموحاً ممولاً من خلال حملة جماهيرية ناجحة. رسخت الهواري هويتها الفنية عبر دمج بارع للموسيقى الشعبية المصرية برؤية الإندي العالمية، وما تحمله من معاني الاستقلال، وروح الشانسون الفرنسي، الذي تتقدم فيه الكلمة على كل عناصر العمل الموسيقي. تقف الهواري أمام التحدي الأعقد: التطور العميق من دون التنكر للأصل، إذ يضع الألبوم الجديد الجمهور أمام معادلة التغيير والثبات. فإطلاق "تردد" بعد هذه السنوات السبع لا يمثل تأخيراً زمنياً فقط، وإنما هو تتويج لمرحلة نضج فني وتأمل جوهري. كان الألبوم الأول تجسيداً صريحاً لحقبة ما بعد الثورات، داعياً إلى النسيان بوصفه آلية تجاوز جماعي للكآبة، ثم يأتي "تردّد" لينسحب من الخطاب السياسي والاجتماعي المباشر، متوغلاً في حوار داخلي أكثر عمقاً وأكثف. تشير الدلالة اللفظية لعنوان الألبوم إلى حالة من التذبذب أو الصدى، وهو ما يمكن تفسيره بمسارين متوازيين: فإما أن يكون انعكاساً لحالة المطربة الذاتية بعد سنوات من الشهرة والإنتاج غير المتسارع، أو مرآة لحالة المشهد الثقافي والاجتماعي الأوسع الذي فقد اليقين وأصبح أكثر ارتباكاً في التعبير عن ذاته. وإذا كانت موسيقى الهواري قد عُرفت سابقًا بـ"خفتها وبهجتها وبساطتها"، فإن "تردّد" يعمل على توسيع الحدود الجمالية لهذه البساطة نحو التجريب الأكثر تجريداً. يمثل الفارق الزمني بين الألبومين فترة حاسمة في المشهدين الفني والاجتماعي. "نقوم ناسيين" (2017) كان بمثابة محاولة جماعية للتنفيس والنسيان القسري لواقع قاسٍ ومرحلة من الإحباط السياسي. أما "تردد"، فيكشف عن فشل هذه الدعوة للنسيان. لقد أدركت الهواري أن التعافي لا يكمن في التجاوز السريع، بل في الاعتراف الشجاع بصعوبة النسيان والتعايش مع التساؤلات والتقلبات الداخلية. هذا التناقض يعكس المرحلة النفسية لجيل بأكمله: الانتقال من صوت الاحتجاج الصاخب إلى صوت التأمل الهادئ والارتياب، إذ أصبح القلق الداخلي هو الامتداد الحقيقي للصراع مع المدينة والواقع الاجتماعي. هذا التبدل من الدعوة للنسيان إلى ممارسة "التردد" كان إقراراً بنضج جماعي يفهم أن الثورة الحقيقية تبدأ من إعادة ضبط الإيقاع الداخلي للفرد. يمثل الألبوم الجديد خطوة استراتيجية في آليات الإنتاج، إذ يعتمد على نموذج توزيع مختلف تماماً عن تجربة "نقوم ناسيين" الرائدة في التمويل الجماعي، الأمر الذي يؤكد استقرار المشروع الفني وقدرته على الحركة الاحترافية في سوق الموسيقى المستقلة. يشير التحول من نموذج التمويل الجماعي إلى نموذج التوزيع الاحترافي/المؤسسي إلى ما هو أبعد من التغيير في آليات الإنتاج. لقد نجحت الهواري في الانتقال من مشروع فني "متمرد" يعتمد على دعم القاعدة الجماهيرية المباشر، إلى مشروع فني مستقر ومؤسسي قادر على الحركة وفق آليات السوق العالمية للموسيقى المستقلة. هذا التطور يدل على أن المشروع الفني نضج إلى درجة الاستدامة الذاتية والاعتراف التجاري، ما يؤكد أن "تردد" ليس مجرد خطوة فنية، بل هو بيان عملي على قدرة الفن المستقل العربي على التحول إلى صناعة احترافية من دون التضحية بالعمق الفني. كان الأكورديون دائماً هو الأيقونة الصوتية المميزة ليسرا الهواري، لكن في "تردّد"، يتجاوز دوره الأداة الشعبية أو كونه آلة مرافقة؛ إذ حولته إلى صوت فكري معاصر، فلم تعد الآلة محصورة في الألحان الفلكلورية أو الكوميدية الساخرة. لقد أصبحت أداة مرنة قادرة على تلبية متطلبات الجاز الهادئ، والإندي التجريبي، والتحليق الصوتي. هذا التحول في وظيفة الأوكورديون يرسخ تحدياً وجدانياً، فبدلاً من أن تظل الآلة مرتبطة بالذاكرة الجمعية لمواسم الأفراح الشعبية أو السخرية، أصبحت قادرة على التعبير عن القلق الوجودي والتقلبات الداخلية. يتجه "تردد" نحو دمج أوضح بين الأنماط الموسيقية؛ فبينما كان الألبوم الأول يتميز بأسلوبه السردي الواضح، يميل "تردد" إلى التجريب الصوتي الذي يدمج "الإندي روك" مع حساسية "الشانسون" الفرنسي في السرد الغنائي، خالقاً نغمة عالمية ممزوجة بلهجة محلية. نصياً، يمثل الألبوم تحولاً واضحاً من القضايا الاجتماعية والسياسية المباشرة إلى الغوص في قضايا وجودية وذاتية أعمق. على سبيل المثال، تشير أغنية مثل "دوري" إلى البحث المضني عن الهوية والدور في فضاء واسع، سواء كان فضاء المدينة المزدحم أم فضاء المشهد الفني المتغير. أما "مترونوم"، فتعكس صراعاً داخلياً مع مفهوم الروتين أو محاولة لإيجاد نظام داخلي في خضم فوضى خارجية، ما يفتح الباب لتحليل علاقة المطربة العازفة بمفهوم الإيقاع والضبط. قد يرى بعض المهتمين أن الغوص في قضايا ذاتية ووجودية عبر أغان مثل "دوري" و"مترونوم" يمثّل هروباً من الواقع الاجتماعي، لكن الأغاني قدمت تعريفاً خاصاً لمفهوم الصراع؛ فإذا كانت الصراعات السابقة تدور حول "السور" الفاصل بين السلطة والشارع، فإن الصراع الجديد يدور حول الفرد ومحاولته لضبط إيقاع وجوده في مدينة متسارعة وفوضوية. سؤال "دوري" هو سؤال عن الهوية في خضم الزحام، وهو امتداد طبيعي للقلق السياسي لكن عبر بوابة شخصية؛ فالبحث عن الدور داخل المشهد الفني يعكس البحث عن الدور داخل المجتمع. أما "مترونوم"، فيمثل محاولة لإيجاد النظام الداخلي القادر على مواجهة الفوضى الخارجية. بهذا المعنى، يصبح "تردد" دليلاً على أن الفن العميق هو الذي يدرك أن الصراع مع الذات هو الامتداد الفعلي للصراع مع المدينة. وتستحضر أغنية "النداهة" الأسطورة الشعبية المصرية، في إشارة ذكية إلى الاستكشاف اللاوعي والماورائيات أو القوى الخفية التي تجذب الإنسان. استحضار "النداهة" في الألبوم ليس مجرد استخدام لأسطورة فولكلورية عابرة، بل هو استعارة فنية عميقة لطبيعة الإلهام والإبداع. يمكن قراءة النداهة رمزاً لنداء الإلهام الفني الذي قد يكون مدمراً بقدر ما هو محفز، أو بوصفها رمزاً للتحرر من اليقين والانجذاب إلى الماورائيات واللاوعي الفردي والجمعي. هذا الانجذاب نحو الغموض يمثل انتقالاً من الموضوعية الواضحة والسياسية في الأعمال السابقة إلى تجريد فني يرتكز على استكشاف الظلال والمناطق غير المضيئة من الذات والمجتمع. يمثل الألبوم تحدياً للهواري لتأكيد هويتها الفنية بعد مرحلة "السخرية السياسية المباشرة" التي وضعتها في خانة ضيقة (كما في أغنيتها الشهيرة "السور"). يبقى السؤال النقدي مطروحاً: هل سيمثّل "تردد" انتقالاً ناضجاً إلى مستوى فني أكثر تجريداً وعمقاً، أم ابتعاداً عن الموضوعية التي كانت تميزها وتجذب شريحة من جمهورها؟ لا يمكن النظر إلى ألبوم "تردد" خطوةً فنية عابرة، فأغانيه أثبتت أن سنوات الانتظار السبع كانت مرحلة من التأمل تخالف الإيقاع الصاخب والرؤية القديمة التي قدمتها المطربة؛ فإذا كان "نقوم ناسيين" محاولة للتنفيس والنسيان الجماعي لواقع قاسٍ، فإن "تردد" هو اعتراف شجاع بصعوبة النسيان وبضرورة التعايش مع التساؤلات والتقلبات الداخلية. رسخت الهواري آلة الأوكورديون صوتاً مرناً قادراً على تلبية متطلبات الجاز والإندي والتجريب الصوتي، متجاوزاً القوالب الشعبية ليصبح أداة تعبير وإعلان موقف. إن تحولها نحو مواضيع مثل "دوري" و"مترونوم" و"نداهة" ليس هروباً من الواقع الاجتماعي، لكنه إدراك بأن الثورة تبدأ من الداخل، وأن التغيير يجري في النفس قبل الواقع. يمثل "تردد" بذلك إضافة نوعية إلى المشهد الموسيقي العربي المستقل، ويؤكد أن الفن العميق يكمن في قدرة الفنان على تحويل القلق الداخلي إلى جمال سمعي ملموس. لم تترك الهواري الجمهور "ينسى"، بل دعته ليتردد معها في مساحات فنية أوسع وأكثر إثارة، مرسِّخة بذلك مكانتها عازفة أكورديون ماهرة، وصاحبة صوت فني جريء ولافت يملك القوة ليصنع المراجعة الفكرية. يتميز الألبوم الجديد بطرح جاد وعميق في معالجة قضايا ذاتية ووجودية عبر أغان مثل "دوري" و"مترونوم". في "دوري"، يتناول السؤال عن الهوية في خضم الزحام، وهو بمنزلة استكشاف للذات في مواجهة تحديات الحياة المعاصرة. الأغنية لا تقتصر على التعبير عن قلق سياسي، بل تأخذ القلق إلى مستوى شخصي يعكس البحث عن الدور والمكان في عالم متسارع. أما "مترونوم"، فهي تمثل سعياً إلى إيجاد النظام الداخلي وسط الفوضى الخارجية، محاولة توازن بين ما يفرضه العالم من ضغوط وما تفرضه الذات من متطلبات. في هذا السياق، تصبح الحيرة في أغاني الألبوم بمنزلة تأكيد أن الصراع مع الذات أعمق من أي صراع آخر.. هكذا تقرر كلمات "دوري": "الدنيا ما بتقفش على حد.. هتنادي ومش هتسمع رد.. والناس ولا فاكرين.. ولا شاغلين بالهم.. ولا شايفين حالهم.. ولا سامعين".

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية