
عربي
في كتابه "سجناء الكراهية: الأسس المعرفية للغضب والعدائية والعنف بين الأفراد والجماعات"، الصادر حديثاً بترجمة لؤي خزعل جبر عن دار سطور، يفكك آرون بيك، وهو أحد رواد العلاج السلوكي في الطب النفسي، الموضوعات التي يصدّرها العنوان باعتبارها نتيجةً لبُنى ذهنية، سواء لدى الأفراد أو الجماعات.
ومسألة العنف، بالصورة التي يعرضها الكتاب، تبدأ وتتشكّل عبر مجموعة من التبريرات الأخلاقية التي يمنحها الانتماء إلى جماعة، كي يمارس أفرادها العنف الجماعي بدعوى الدفاع عن الحق والخير. وتُبنى هذه التبريرات أساساً في منظومة من التشوّهات المعرفية، تقسم العالم إلى "نحن" و"هم"، وعبر آلية من التعميم المفرط، إذ تصوّر الواقع أبسط مما هو عليه، وتُخرج العنف من حيز المساءلة.
يستخدم بيك تعبير "التفكير البدائي" لوصف الحالة الذهنية التي يطغى فيها الانفعال على التقدير المسؤول للموقف. إذ تتبدّد الدرجات الرمادية، وتحل مكانها صورة متصلّبة للذات والآخر: "نحن" أخيارٌ ومظلومون، و"هم" شرٌّ خالص. ولا يقتصر هذا التبسيط على غرف العلاج النفسي، إنما يظهر، بالحدة نفسها، في الساحات والحشود. كما يبحث الكتاب في انتقال هذه الآليات الذهنية من مستوى الفرد إلى الجماعة، حين تجد من يؤطّرها سياسياً وإعلامياً، وحين يُقال للقاعدة الاجتماعية إن الغايات العظمى تُبيح الوسائل العنيفة، ومع تبنّي سردية ترى الجماعة ضحيةً تاريخية، يزداد الاستعداد لتبنّي حلول قصوى، تصلُ إلى القتل الجماعي لحشدٍ آخر متجانس، لا تمايز فيه.
بالنسبة إلى بيك، وباعتباره يرى العنف نتيجةً لبُنى ذهنية قابلة للتعديل، يوجّه نقداً لسياسات مواجهة العنف، إذ تُشدّد القوانين على الردع والعقاب، لكنها لا تستهدف أنماط التفكير التي تُنتج الكراهية. كما أن ردّ العنف إلى "طبعٍ شرير" يُعَدّ تشخيصاً مريحاً، لكنه يعفي المجتمع من واجب إصلاح البُنى المعرفية والثقافية التي تُشرعن القسوة.
وفي هذا السياق، يقترح بيك أن تُنقل بعض أدوات العلاج المعرفي السلوكي من العيادة إلى المجال العام، من خلال رصد اللغة العامة، لا سيما الاستخدام المفرط لمفردات "العدو"، و"الخيانة"، واعتماد المنطق الثنائي الحاد. كما يدعو إلى مراقبة هذه المؤشرات في المناهج والخطاب وعلى المنصات الرقمية.
بهذا، فإن المقولة الجوهرية في كتاب "سجناء الكراهية" هي: إن كان العنف يبدأ من صورة في الذهن، فإن تفكيكه يبدأ من الذهن أيضاً، عبر جدال السرديات التي تمنح العنف أسباباً لاستمراره بأن تضفي عليه سماتٍ أخلاقية.
