عربي
يمارس رئيس الوزراء العدو، نتنياهو، بذكاء واحتراف مشهودين له، أسلوبه المتبع منذ اتفاق أوسلو في تفخيخ المبادرات والاتفاقات، وتغليف سياساته الغادرة والعنيفة بغطاءٍ دبلوماسي. ... خطّة ترامب المعلنة قبل أيام ليست الأولى ولا الأخيرة، حتى لو قالت حركة حماس إنها توافق عليها كما هي بلا توضيح ولا تصحيح، فإنه قادر على تفخيخها وتعطيلها ومواصلة حرب الإبادة في غزّة.
يأمل نتنياهو أن تريحه "حماس" في قرارها المتوقّع في الساعات المقبلة، ويأتي الرفض منها، ويظهر هو بمظهر حمامة السلام المضطرّ إلى خوض الحرب دفاعاً عن شعبه. نحن أمام عدو مجرم ومتوحش، بقدر ما هو ماكر وخبيث ومخادع. ولا تكفي الشجاعة وحدَها في التعامل معها، تحتاج المقاومة إلى قدرة أعلى من المكر والكيد لاتّقاء شروره، وأفضل هديةٍ لا يستحقها العدو التعامل بسذاجة وبراءة معه، فقد أدرك نتنياهو مبكّراً أن العهد الذهبي له في فترة الرئيس بايدن انتهى، وهذا صهيوني معتّق، يدرك مصالح إسرائيل ويسعى إليها أكثر من نتنياهو، مقابل ترامب النرجسي الذي تحرّكه غريزة السلطة والثروة والمصالح الأميركية لا غير. بايدن مثقفٌ وقارئ كاد أن يغيّر دينه إلى اليهودية، لا يقرأ ترامب غير استطلاعات الرأي، وفي حملته الانتخابية أعطى مسلمي متشيغان ما طلبوه ليحسم الولايات المتأرجحة، وهو يعرف إن الناخب الأميركي لم يعد يشتري الرواية الصهيونية، وكل استطلاعات الرأي تشير إلى أن الناخب الأميركي يرفض حرب الإبادة، ويطالب بوقف هذه الحرب التي تتم بأسلحة أميركية. ويدرك جيداً أن 60% من الشباب الأميركي (جيل Z) يؤيدون "حماس". وقاعدته MAGA تعتبر إسرائيل عبئاً اقتصاديا وماليا وسياسيا وأخلاقيا على أميركا.
يأمل نتنياهو أن تريحه "حماس" في قرارها المتوقّع في الساعات المقبلة، ويأتي الرفض منها، ويظهر هو بمظهر حمامة السلام المضطرّ إلى خوض الحرب دفاعاً عن شعبه
يعرف نتنياهو ذلك وأكثر، فهو لا ينسى إن ترامب حاقد عليه بعد أن قلب عليه، رغم كل ما قدمه له. هو كما قال يرفض مقولة المسيح ولا يغفر لأعدائه. ولا يغفر لمن تخلّى عنه؛ فهو يلعب على نرجسية ترامب وتأهيله لجائزة نوبل للسلام. وفي الوقت نفسه، وضع ألغاماً في المبادرة تفجّرها حركة حماس، ليصبح هو أمام ترامب والرأي العام الإسرائيلي رجل سلام، ويسوّق أن الحركة هي التي تريد الحرب واستمرارها.
من المفترض ألا يعطي قرار الحركة هذه الهدية له. وينزع صاعق اللغم، أو يتركه ينفجر به. حاول نتنياهو تقسيم الحركة، سواءً بين الداخل والخارج أو بين الجناحين، العسكري والسياسي، لكن الحركة أثبتت وحدتها. وأثبت قادتها إنهم فوق المزايدات، ولكل منهم تاريخ حافل بالتضحية، وهم إما من نجوا من محاولات اغتيال أو مهدّدون بها. قائد مثل خليل الحية أبو الشهداء نجا من أكثر من محاولة، ليس آخرها ما تعرّض له في الدوحة، وكذلك خالد مشعل عاد إلى الحياة بعد محاولة الاغتيال عام 1997. ولا يملّ الإسرائيليون من التهديد بأنه هدف للاغتيال. ويعرف قادة الحركة إنهم كانوا ولا يزالون مثل قيادة كتائب الشهيد عز الدين القسّام، هدفا للاغتيال. وإن من يفاوض تماما كمن يقاتل. والتفاوض جزءٌ من تكتيك حربي لنتنياهو، يسكُت فيه ذوو الأسرى ويتجنّب الضغوط الأميركية.
لا شيء يضغط قادة الحركة ولا يغريهم غير المصلحة العليا لشعبهم، وهم موحّدون على هذا. والقيادة العسكرية في غزّة فوّضتهم باتخاذ أي قرار. وهي تزاول دورها في صياغة ملحمة عسكرية لم تتوقف منذ عامين، وتترك القرار السياسي للقيادة في الخارج. وهي قدّمت نموذجاً غير مسبوق في التاريخ، عندما استهدفت في الدوحة وهي تدرس مقترحاً أميركياً، وهذا لم يُرهبها، ولم يُرهب قطر.
ساعات تفصلنا عن قرار "حماس" بخصوص الموافقة على خطة الرئيس ترامب لوقف الحرب أو رفضها. أيا كان قرار الحركة، فهو ثمرة حساباتٍ دقيقةٍ لموازين القوى ومصالح الشعب الفلسطيني وتقدير لتضحياته ووقف معاناته. من المفترض أن ينزع قرار الحركة صواعق الألغام التي وضعها نتنياهو، لا أن يفجّرها.
لا شيء يضغط قادة حركة حماس ولا يغريهم غير المصلحة العليا لشعبهم، وهم موحّدون على هذا
لو كانت الحركة تفكر بمصالح ضيقة، لما قامت بعملية 7 أكتوبر؛ فقد كانت تدير قطاع غزّة بكفاءة، ولديها جمهورها وأجهزة حكومية قادرة على إدارة شؤون القطاع، وتلبية مصالح أهل غزّة اليومية. كان تفكير الحركة دوماً مصلحة القضية الفلسطينية، ومن اتخذ قرار "7 أكتوبر" اتخذ قراراً استشهاديّاً جماعيّاً لإحياء القضية الفلسطيني، بمعنى التطبيق الحرفي لمقولة الخليفة الراشد أبي بكر الصديق، رضي الله، عندما أوصى لخالد بن الوليد، رضي الله، قبل المعركة: "احرص على الموت تُوهَبْ لك الحياة".
لا يقلّ التعامل السياسي صعوبة عن التعامل العسكري، وأذكى القادة هم الذين يحوّلون قوة عدوّهم إلى قوةٍ لهم، تماماً كما يفعل لاعب الجودو الذي يستغل زخم خصمه لصالحه. نحن اليوم أمام إدارة أميركية نرجسية قد تسبّب ضرراً لا يمكن إصلاحه للقضية الفلسطينية. في المقابل، الرئيس ترمب هو الرئيس الوحيد الذي ربما يستطيع، بسبب نرجسيته وضغائنه وحساباته، أن يضغط على نتنياهو مدركاً إنه يمارس الخداع والنفاق له. ولا يوجد ضغط على الحركة يُعادل الضغط على أهل غزّة قتلاً وتدميراً وحصاراً وتجويعاً. لا معنى للحديث عن ضغوط على قيادة الحركة، وهي مشاريع شهادة، وأن قيادتها على قائمة الاغتيال الإسرائيلية قبلت المبادرة أو رفضتها. ولا يوجد انقسام تنظيمي داخل الحركة؛ ما يظهر وما يخفى هو أحياناً هو اختلاف في تقييم المصلحة الفلسطينية.
بايعت القيادة العسكرية على الاستشهاد ولم تلن قناتها منذ عامين، رتّبت أمورها العسكرية، لكنها فوّضت القيادة السياسية في الخارج باتخاذ القرار المناسب من دون اشتراطات، لأنها تثق بها ثقة كاملة، وهي الجهة القادرة على قراءة اللحظة السياسية بشكل مناسب، واتخاذ القرار الذي يلبي المصلحة الفلسطينية العليا. ولا يوجد ضغط من الحلفاء يحرّك الحركة؛ الطرف الوحيد المتحمّس للخطة من الحلفاء هم الأتراك الذين يرون أن هذه لحظة لن تتكرّر، وهي حسابات تراعي المصلحة التركية مع الرئيس ترامب باعتباره قد يكون أفضل زعيم أميركي في المدى المنظور للتعامل معه. في المقابل، يمكن قراءة التصريحات العلنية لرئيس الوزراء القطري، الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، ل"الجزيرة"، وكذلك تصريحات وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، في المقابل الموقف التركي مندفع للخطّة.
لا تخضع النقاشات داخل الحركة لا لضغوط عدو ولا تمنيات صديق، ولا لحفلات منصات التواصل الاجتماعي وحملاتها. ترى الحركة في قرارها مسؤولية أمام الله وأمام تضحيات الشهداء والقادة العظام والأطفال والنساء والأبرياء العزّل، ويراعي هذا القرار المصلحة الفلسطينية العليا فقط، ولا تخشى فيه غير الله. صحيح أن قبول خطة ترامب كما هي قد يكون انتحاراً سياسيّاً، وتفريط بتضحيات الشعب الفلسطيني، بقدر ما هو صحيح أن رفضها قد يشكل انتحاراً بطريق مختلف، ويكون هدية للعدو لا يستحقها. والمفارقة أن نتنياهو والحركة يواجهان التحدّيات نفسها: في المعارضة الإسرائيلية من يعتبر نتنياهو مسؤولاً عن إخفاقات "7 أكتوبر"؛ ولو قبل المبادرت من البداية لحافظ على حياة الأسرى، وأوقف الخسائر الكبرى الناتجة عن استمرار الحرب. في المقابل، الحلفاء المتطرّفون لنتنياهو يرونه فوّت فرصة تاريخية للقضاء على حركة حماس وتهجير سكّان غزّة وإعادة احتلالها والاستيطان فيها.
لا تخضع النقاشات داخل الحركة لا لضغوط عدو ولا تمنيات صديق، ولا لحفلات منصات التواصل الاجتماعي وحملاتها
قد يكون قرار الحركة "نعم" صغيرة مع "لكن" كبيرة، تحمل تحفّظات على البنود الأساسية في المبادرة على شكل توضيحاتٍ وتصحيحا، بمعنى توضيح بنود مبهمة قد يُجِرّها كل طرف لصالحه. أياً كان قرار "حماس" فهو الصحيح، ويسعنا ما يسع الأبطال في غزّة الذين فوضوا القيادة، وفرق بين أن تدافع عن الحركة وقادتها وتاريخها وتضحياتها وتدافع عن حقّها في اتخاذ القرار المناسب، وبين أن تستسلم لتلك الضغوط. والأسوأ أن تزاود عليها، وتنفّذ خطة نتنياهو في تفكيكها وتعزل شرعيّتها.
ما كتبه السفير الأميركي السابق في مصر، آرون ديفيد ميلر، في "فورن بولسي"، أخيراً، قريب من الدقة "على الرغم من ذلك، من المرجّح أن تكون حماس ذكية بما يكفي للرد بـ "نعم، ولكن"، مُدرجةً تحفّظاتٍ تحتاج إلى مناقشتها والاتفاق عليها. كانت ردود "نعم، ولكن" شائعةً في محادثات السلام الإسرائيلية الفلسطينية، على سبيل المثال، معايير كلينتون عام 2000 وخريطة الطريق التي وضعتها إدارة بوش عام 2003. إذا أراد الطرفان التوصل إلى اتفاق يُمكن تجاوز التحفّظات. ولكن عندما لا يرغب أيٌّ من الطرفين في التوصل إلى اتفاق، تُصبح التحفّظات استراتيجيةً أكيدةً لعدم التوصل إلى اتفاق".
أخبار ذات صلة.

عاما إبادة غزة يهزّان صورة إسرائيل في الغرب
العربي الجديد
منذ 13 دقيقة

شمال سيناء شاهدة على عامين من حرب غزة
العربي الجديد
منذ 13 دقيقة