
عربي
أمّا وأن ما سمّاها ترامب خطّته "الشاملة لإنهاء الصراع في غزّة" أكثرُ من سيّئة، وأرطالُ ما يُراد فيها للفلسطينيين من استسلامٍ باهظة، فهذا لا حاجة إلى استرسالٍ في شرحه، فبنودٌ عديدةٌ في الخطّة هذه واضحةٌ أكثر من اللزوم. ولذلك، ليس الموضوع هنا، وإنما عن مدى قدرة حركة حماس على رفضها، أو فرض تعديلاتٍ عليها. ولأسبابٍ معلومة، "حماس" هي الطرف الفلسطيني الوحيد الذي يفاوض في هذا الشأن. ولا يقتطع هذا السؤال شيئاً من وجاهة التحفّظات المحقّة لدى الحركة على الخطّة التي "ركّبها" نتنياهو كما يريد، واستجاب ترامب لمطالبه بإجراء ما غيّرها عن التي سُلّمت لقادةٍ عربٍ ومسلمين. أمّا داعي السؤال نفسه فهو الكلفة المهولة التي سيدفعها الشعب الفلسطيني في غزّة جرّاء رفضٍ قد تُعلنه الحركة المجاهدة أو تعديلاتٍ تطلبُها، مع التسليم بأن لا شيء يردع نتنياهو عن المضي في حرب الإبادة الجارية، أياً كان الموقف الذي نترقّبه من "حماس"، وقد ظلّ يمتنع عن تقديم أي ضماناتٍ من أي نوعٍ لعدم استئناف الحرب في أيّ ظرف، والقناعة في محلّها أن الحرب قد لا تتوقّف ما دام هذا الرجل في رئاسة حكومة العدوان. ومتاهةٌ مثل هذه لا تلغي سؤالاً شديد الإلحاح عن الأدوار الكبرى لكل من تأخذُه مقادير التاريخ إلى مواقع القيادة والقرار، وهذه المواقع في الظرف الفلسطيني المتحدّث عنه هنا منعقدةٌ لحركة حماس، وبذلك تُناط بها وحدها الإجابة على السؤال عن قدرتها، العملية والميدانية، وليست اللفظية فقط، على رفض خطّة الاستسلام والوصاية التي أشهرها ترامب (ومعه نتنياهو) الاثنين الماضي، وبالتالي، عن تلك الكلفة المؤشّر إليها. ومع تأكيد المؤكّد، بشأن المأزق الشديد الصعوبة التي تُغالبه الحركة، ومع شعورها المعلوم بالمسؤولية العالية تجاه شعبها، وبأن حرصَها كبيرٌ على تجنيب قطاع غزّة مزيداً من الإبادة والتدمير الأعمى، فإن هذا كله لا يعني ترك السؤال المطروح واعتباره من لزوم ما لا يلزم.
لا موضع للمشابهات المرتجلة بين المطروح حالياً بشأن غزّة ويومها التالي بعد الحرب واتفاق فيليب حبيب في بيروت صيف 1982 الذي قضى بإنهاء الغزو الإسرائيلي المعلوم ووقف حربٍ شرسة استمرّت نحو 80 يوماً مع خروج المقاومة الفلسطينية إلى تونس وغيرها. ولا داعي لاستدعاء الإنشائيات إيّاها عن "سمٍّ زعاف" قد تتجرّعه "حماس" عندما تقبل بالذي رماه رئيس الدولة الأقوى لقبوله أو يكمل نتنياهو "المهمّة" في تفويض أميركي متجدّد له في غزّة. أولوية الأولويات التي يفترض أن تكون أول الهموم والقضايا، وقفُ المذبحة ولا شيء آخر، وقفُ قتل مائة فلسطيني كل يوم، مع تدميرٍ إضافيٍّ في مرافق الحياة والعيش العام. وإذ يظلّ مطلوباً وملحّاً أن تتواصل الدول التي تسلّمت مقترح ترامب قبل أن يفخّخه نتنياهو بتعديلاته (نزع سلاح حماس المتزامن مع انسحاب من غزّة غير مجدول وغير واضح)، من أجل إعادة الأصول إلى الأصول، وإذ تَحاور أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، مع الرئيس ترامب، هاتفياً في هذا الخصوص، وإذ أفاد رئيس وزراء قطر، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، أن بنوداً في المقترح تحتاج إلى تداول تفصيلي، فإن المأمول أن يجد هذا الجهد الذي تُبادر إليه الدوحة مع البيت الأبيض نتائج منظورة. ولكن هذا التفصيل المهم لا يُزيح الكرة عن مرمى "حماس"، وفي البال أن الماثلَ أمام أبصارنا ليس لعباً ولا رمي كراتٍ، وإنما جحيمٌ في غزّة لا قرار في العقل الإسرائيلي الراهن بوقفه، فالشيطانُ يجلس القرفصاء في هذا العقل، على ما قال غسّان كنفاني مرّة، وفي وسع هذا الشيطان أن يخرّب في مسار العمل بالخطّة، الشديدة السوء على ما يجب التذكير دائماً، عند كل تفصيلٍ وكل انعطافة فيه.
صار من أمنيات الفلسطينيين المشتهاة أن يقف مجرى الدمار والتمويت والتحطيم والتقتيل والتعطيش والتجويع في غزّة. لم تنجح في هذا مظاهرات الغضب والتنديد والتضامن الجليلة في العالم، لأنها إسرائيل وليس غيرُها مالكة القرار ويدُها الطولى صاحبته. ... إذن، ماذا عساها "حماس" أن تفعل؟ هل في وُسعها أن تجترح المعجزة التي تنهض على نجاة من في المقدور نجاتُهم هناك، توازياً مع احترام حق الفلسطيني في المقاومة ضد العدو المحتل بالسلاح وغيره؟ هل تُبدع صيغةً خلّاقة ما لا يقوى غيرُها على إعلانها، مهما كانت الحسابات والرهانات والحساسيات؟ هل...؟
