
عربي
في لحظة مشحونة بالقلق بشأن الانزلاق نحو العنف الذي اتخذته احتجاجات شباب "جيل زد" في المغرب ليلة أمس الثلاثاء، تصدر الأمين العام لحزب العدالة والتنمية رئيس الحكومة المغربي السابق عبد الإله بنكيران الواجهة من جديد، بعد أن سارع في الساعات الأولى من صباح الأربعاء إلى تهدئة الشارع بدعوة الواقفين وراء الاحتجاجات إلى إيقافها، معتبراً أن استمرارها "ستكون له أسوأ العواقب".
وبعد ليل طويل من الصمت السياسي للقيادات الحكومية والحزبية حيال انزياح الاحتجاجات عن سلميتها، جاء دخول بنكيران على الخط ليثير عاصفة من الأسئلة حول دوافع الرجل وحساباته في لحظة فارقة في مسار الحراك الشبابي الذي انفجر، بشكل مفاجئ، في وجه حكومة غريمه السياسي عزيز أخنوش.
وكان بنكيران قد دعا في الساعات الأولى من صباح اليوم الأربعاء، في نداء وجهه إلى الواقفين وراء احتجاجات "جيل زد" التي انطلقت السبت الماضي، إلى إصدار توجيهاتهم للمتظاهرين بإيقافها، معتبراً أن استمرارها "ستكون له أسوأ العواقب"، وذلك بعد أن عاشت مدن مغربية عدة، ليل أمس الثلاثاء، أحداثاً عصيبة إثر اندلاع أعمال شغب وتخريب ممتلكات عامة وخاصة، أسفرت عن إصابات في صفوف المحتجين وقوات الأمن، وذلك في مؤشر لافت سجل بعد توسع الاحتجاجات من مدن كبرى في البلاد إلى مدن وحواضر صغرى.
وتحولت مسيرات سلمية رُفعت فيها مطالب اجتماعية صرفة إلى مشاهد من الفوضى والعنف والمواجهات مع قوات الأمن في كل من تمارة القريبة من العاصمة المغربية الرباط، وخميس آيت عميرة في إقليم شتوكة، ووجدة (شرق)، وبني ملال (وسط)، في حين عاشت مدينة إنزكان، جنوبي البلاد، ليلة صعبة بعد إقدام محتجين على تخريب الممتلكات واقتحام عدد من الوكالات البنكية والمحال التجارية وتفجير قنينة غاز في وسط الشارع.
وبينما كان لافتاً غياب الحكومة والقوى الحزبية والسياسية عن المشهد ليلة أمس، اعتبر رئيس مركز شمال أفريقيا للدراسات والأبحاث وتقييم السياسات العمومية رشيد لزرق أن دعوة بنكيران إلى وقف الاحتجاجات تمثل "تكتيكاً مزدوجاً، فهي من جهة تسعى إلى تفادي الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة بين الشارع والدولة ما قد يجر البلاد إلى دورة من التصعيد غير المتحكم فيه، ومن جهة أخرى، يريد الحفاظ على شرعية المطالب الاجتماعية عبر إبقائها داخل منطق الإصلاح المؤسساتي بدل تركها عُرضة للتأويل الأمني الذي قد يختزلها في تهديد للاستقرار".
وقال لزرق، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "هذه الدعوة تعكس إدراكاً لمحدودية القدرة التعبوية ولأهمية الحفاظ على توازن دقيق بين التعبير السلمي والسلطة"، مشيراً إلى أن الحسابات السياسية لبنكيران "واضحة أيضاً، فالرجل يراهن على خبرته السابقة خلال احتجاجات 20 فبراير/شباط، ليعيد تقديم نفسه فاعلاً قادراً على الوساطة بين الدولة والجيل الجديد من المحتجين". ولفت إلى إنه "عبر خطاب التهدئة، يرسل بنكيران رسالة مزدوجة إلى الدولة بأنه يظل شريكاً مسؤولاً يحافظ على الاستقرار، وإلى المجتمع بأنه لا يزال وفياً للمطالب الاجتماعية"، مشيراً إلى أن "هذا التموضع يمنحه موقعاً خاصاً يجمع بين المعارضة والنصيحة، بين الدفاع عن السلم الاجتماعي والتعبير عن الغضب الشعبي".
وذكر المتحدث نفسه أنه "من زاوية أبعد، يمكن اعتبار الخطوة محاولة لاستعادة المبادرة السياسية داخل حقل يعرف تراجعاً في أدوار الأحزاب"، موضحاً أن بنكيران "يدرك أن الاحتجاجات الحالية تعكس أزمة تمثيل وثقة، لذلك يسعى إلى استثمارها لتجديد حضوره السياسي والشعبي". وأضاف: "بنكيران يطرح نفسه بديلاً وسطياً: ليس مع الشارع بالكامل، وليس ضد الدولة بالكامل، بل يحاول أن يكون صوتاً (عقلانياً) يمكن أن يجد فيه الطرفان نقطة تقاطع، ما يعزز موقعه وموقع حزبه في أي إعادة ترتيب محتملة للمشهد السياسي القادم".
وإجمالاً، رأى المتحدث نفسه أن بنكيران "لا يزال يراهن على خبرته السابقة في إدارة لحظات التوتر الاجتماعي والتواصل المباشر مع الشارع"، موضحاً أن خطابه يقوم على استحضار تجربته خلال حراك 20 فبراير، حيث "لعب دور الموازن بين المطالب الشعبية وضغوط الدولة، معتمداً لغة بسيطة قريبة من الناس وقدرة على التأطير السياسي". ولفت إلى أن "هذا الرهان يعكس إدراكه ضعفَ قنوات الوساطة التقليدية، وسعيه لتجديد موقعه فاعلاً قادراً على التفاعل مع الحركات الاجتماعية خارج الأطر الحزبية الجامدة، مع الحفاظ في الوقت نفسه على موقع تفاوضي يجعله شريكاً محتملاً للدولة في تدبير الأزمات".
في المقابل، نفى أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس في الرباط القيادي في حزب العدالة والتنمية عبد العالي حامي الدين، في حديث لـ"العربي الجديد"، اتهامات ركوب زعيم حزبه الاحتجاجات، موضحاً أن "مشاهد الانزلاق إلى العنف وتخريب الممتلكات العمومية، التي تابعناها جميعاً، دفعت بنكيران إلى تحمل المسؤولية والتوجه بندائه إلى المحتجين إيماناً منه بأن استمرار الاحتجاج العنيف لن يخدم أهداف التظاهر والمطالب المشروعة للمحتجين، خصوصاً أمام صمت حكومة عزيز أخنوش وعدم خروجها إلى حدود الساعة بأي موقف رسمي أو قرار سياسي يعيد الهدوء للشارع".
وبالنسبة لعضو المجلس الوطني لـ"العدالة والتنمية" حسن حمورو، فإن "بنكيران من السياسيين القلائل في المغرب الذين يعلنون مواقفهم بقوة وبصراحة مهما بدت فيها المواجهة مع الجماهير، بحيث لم يعرف عنه أنه ركب موجة احتجاجات صغيرة أو كبيرة فئوية أو عامة". وقال: "بالنسبة إليه ( بنكيران)، الأمن والاستقرار أولوية لا يمكن المساس بهما مهما كانت مشروعية المطالب والاحتجاجات، بالإضافة إلى أنه ظل دائماً يرفض إقحام الملكية أو التعريض بها في سياق الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية، ويعتبر أنها هي السقف الذي يؤوي الجميع، وأنها هي ضمانة الاستقرار السياسي في المغرب، لذلك يدافع عنها بشراسة".
وتابع: "هذه الدوافع هي التي حكمت موقفه من احتجاجات 20 فبراير 2011، وهي نفسها التي جعلته يوجه نداء في منتصف الليل لمتزعمي احتجاجات جيل زد، عندما رأى أنها قد تخرج عن مطالبها المعلنة بسبب العنف والتخريب الذي ميز الاحتجاجات في يومها الرابع". واعتبر، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "بنكيران رجل دولة يفرق في ممارسته للسياسة بين كونه أميناً عاماً لحزب في المعارضة من الطبيعي أن يستثمر كل احتجاج ضد الحكومة، وكونه سياسياً وطنياً يجعل مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ويستشعر التحولات التي يمكن أن تفقد الاحتجاجات معناها وتجعلها حطب نار تأكل الجميع، لذلك يتدخل وسط العاصفة مؤدياً واجبه بوجه ورأس مكشوفين".
من جهته، رأى المحلل السياسي بلال التليدي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن دعوة بنكيران شباب "جيل زد" إلى التهدئة "جرأة سياسية وتعبير عن وطنية خالصة لم نرها في أي مسؤول حكومي"، موضحاً: "في مثل هذه الأوضاع، يجد الزعيم السياسي نفسه أمام سيناريوهات، إما التزام الصمت، وهو ما فعله الفاعل الحكومي، أو الركوب الموجة وانتظار قطف ثمارها، أو التفاعل مع الحدث، وهو الطريق الذي اختاره بنكيران بكل ما له من رصيد سياسي، حينما وجه نداء إلى المحتجين من أجل إيقاف احتجاجاتهم". وأضاف: "لا يهمني إن كان قد تصرف من تلقاء نفسه أو لا، لكن لا يمكن لأحد إنكار أنه تحدث في الوقت المناسب بعد أن بدأ الانزياح عن الاحتجاج السلمي، لقد أبان الرجل المفهوم الحقيقي للسياسي الذي لا يفكر في مصلحته الشخصية، وإنما في مصلحة الوطن، ويتفاعل مع الحدث ولا ينتظر مروره".
