حراك "جيل زد" في المغرب... البساطة والجرأة
عربي
منذ 6 أيام
مشاركة
يعيش المغرب منذ أيام على إيقاع موجة احتجاجية غير مسبوقة تقودها حركة غير مرئيةٍ تطلق على نفسها اسم "جيل زد"، خرجت فجأةً من الفضاء الافتراضي لتتحوّل قوةً حقيقيةً في الشارع، عابرةً المدن والقرى، ومعبّرةً عن غضب اجتماعي تراكم طويلاً. هذه الحركة، التي نشأت في مجموعات مغلقة داخل تطبيقاتٍ مثل ديسكورد، ثمّ انتشرت كالنار في الهشيم في “فيسبوك" و"تيك توك" و"إنستغرام"، اختارت أن ترفع مطالب اجتماعية صرفة: تحسين الخدمات الصحّية، ضمان تعليم عمومي مجّاني وذي جودة، وتوفير فرص العمل للشباب العاطل وتحقيق العدالة الاجتماعية، لكنّها في الوقت نفسه أعلنت رفضها الانخراط في الأحزاب والنقابات أو الارتهان لأجندات أيديولوجية، ما جعلها تبدو كائناً سياسياً جديداً يرفض القوالب القديمة. بدت الحكومة والأحزاب والنقابات المغربية خارج الزمن السياسي: صمت ثقيل، غياب تامّ من المشهد، مقابل حضور أمني كثيف جاءت ردّة فعل السلطات سريعةً وحادّةً، منذ اللحظة الأولى لنزول المحتجّين إلى الشوارع، وُوجِهَت المظاهرات بعنف مفرط. صبّت مقاطع الفيديو التي وثّقت اعتقالات طاولت شبّاناً وشابّات في مقتبل العمر، وأمّهات وقاصرين، وحتى رضّعاً كانوا يشحنون بطريقة عنيفة، مثل الخرفان، داخل سيارات الشرطة، الزيت على نار الغضب، وأطلقت دينامية تضاعفت معها رقعة الاحتجاجات. أمام هذه الموجة، بدت الحكومة والأحزاب والنقابات كأنّها خارج الزمن السياسي: صمت ثقيل، غياب تامّ من المشهد، مقابل حضور أمني كثيف يحاول وحده احتواء غضب الشارع. المفارقة أن هذا الغياب عزّز صورة حركة "جيل زد" فاعلاً جماعياً جديداً، يمتلك طاقةً سياسية من خارج المؤسّسات التقليدية. لا يمكن فصل هذه الظاهرة عن سياق أوسع، فجيل الاحتجاج الجديد ليس اختراعاً مغربياً صرفاً، بل جزء من موجة عالمية انطلقت من جنوب آسيا، من نيبال وبنغلاديش وسريلانكا، قبل أن تصل إلى أفريقيا جنوب الصحراء في كينيا ومدغشقر. انتفاضات شبابية مشابهة قادها أفراد "جيل زد"، مستخدمين الأدوات الرقمية نفسها، واللغة الاحتجاجية نفسها التي تجمع بين بساطة المطالب وجرأة الموقف. واليوم، المغرب أول بلد عربي وأفريقي شمالي يواجه هذه الموجة، ما يضعه في قلب ظاهرة عالمية تعيد تعريف السياسة من خارج قنواتها التقليدية. جيل جديد من شباب في مقتبل العمر، غارقون في العالم الافتراضي، يرفضون التسميات الأيديولوجية، لكنّهم يمتلكون وعياً سياسياً متّقداً، ولهم قدرة لافتة على التنظيم السريع والمرونة التكتيكية، يرفضون الانتظار، ويصرّون على مطالب ملموسة وآنية وحلول فورية. وفي الشارع يتحرّكون وفق تكتيكات مرنة تربك الأجهزة الأمنية: احتجاجات متفرّقة ومتزامنة، تغييرات سريعة في المسارات وأماكن الاحتجاج، واعتماد كبير على تقنيات البثّ المباشر والتنسيق اللحظي بين فرق صغيرة تتحرّك منفصلةً، وفي الآن نفسه، وفي أكثر من مكان في المدينة نفسها لإرباك قوات الأمن وتشتيت انتباهها وتركيز عناصرها. هنا، يظهر أن "جيل تيك توك"، الذي صُوّر طويلاً جيلاً سلبياً ومنعزلاً، إنما هو جيل يعيد اختراع السياسة بوسائله الخاصة، ويكسر حاجز الخوف في فضاء عام كان يعيش نوعاً من الشلل. ولكن السياق المغربي يضفي خصوصيةً على هذه الحركة التي لها جذورها المحلية، فالمجتمع كان يعيش منذ سنوات حالةً من الانسداد، قمع متزايد للحريات العامة، تفريغ الأحزاب من محتواها، إضعاف النقابات، وجود مؤسّسات شكلية فاقدة للمصداقية أفرزتها انتخابات مطعون في نزاهتها، وتراجع النقاش العمومي بفعل التضييق على الصحافة المستقلّة لصالح إعلام تفاهة مموّل من المال العمومي. ترافق ذلك مع وضع اقتصادي واجتماعي صعب بفعل ارتفاع تضخّم الأسعار، وارتفاع معدّلات البطالة، وتفاقم الفوارق الطبقية، وتفشّي الفساد، وغياب العدالة الاجتماعية، وتوجيه استثمارات ضخمة على حساب خدمات أساسية، إلى مشاريع رمزية مثل كأس العالم 2030، بينما القرى والمناطق المهمّشة تعاني نقص الماء والطرق والخدمات الأساسية، كلّها عناصر غذّت حالة الاحتقان الاجتماعي. هذه الخلفية جعلت ظهور "جيل زد" أشبه بانفجار مكتوم منذ سنوات، وليس مجرّد ارتجال شبابي عابر. المشهد اليوم في المغرب أكثر تعقيداً في غياب أيّ مخاطب رسمي يملك شرعية الحوار مع المحتجّين يؤكد التاريخ المغربي نفسه الطبيعة الدورية لهذه الهزّات، فمنذ أحداث الدار البيضاء الدامية عام 1965، شهدت البلاد موجات احتجاج كبرى في أعوام 1981 و1984 و1991 و2011، وفي كل مرّة كانت السلطة تردّ بمزيج من العنف والانفتاح الجزئي، قبل أن تعود سريعاً إلى سياسة الضبط، والنتيجة تراكم احتقان يولّد انفجاراتٍ جديدة، غالباً أشدّ قوة، وكأنّ البلاد تعيش وفق إيقاع زلازل اجتماعية تتكرّر كل بضع سنوات، تخمد فترةً، ثمّ تعود أقوى بفعل انسداد الأفق. ما يجري اليوم يبدو استمراراً لهذا النمط، لكن بفاعل اجتماعي جديد كلياً: جيل وُلد ونشأ في العالم الرقمي، يمتلك أدوات اتصال وتنظيم تختلف جذرياً عن أدوات الأجيال السابقة، ويصعب على السلطة التقليدية احتواؤه بالأساليب نفسها. المفارقة أن هذا الجيل، رغم رفضه الأحزاب والنقابات، ليس غير سياسي. على العكس، وعيه السياسي متقدّم، لكنّه لا يثق في مؤسّساتٍ يعتبرها فاسدةً أو فاقدةً للمصداقية والشرعية. جيل "ضدّ المؤسّسات" لا بمعنى اللامبالاة، بل بمعنى البحث عن أفق بديل خارج البنى القائمة. هذه النقطة بالذات تُقلق السلطة، لأنها تعني أن الوساطات المعتادة كلّها قد فقدت صلاحيتها، فلم تعد الأحزاب قادرةً على لعب دور الوسيط، ولا النقابات قادرة على ضبط الشارع، والمعادلة باتت مباشرةً: شباب محتجّ مقابل قوات أمن، في غياب أيّ قنوات حوار وممثّلي الوساطة. اليوم، يكاد يكون المشهد أكثر تعقيداً في غياب أيّ مخاطب رسمي يملك شرعية الحوار مع المحتجّين، وحدها المؤسّسة الملكية تبقى، موضوعياً ورمزياً، قادرةً على فتح أفق للحوار والحلّ، أمّا استمرار القمع فقد يخنق المظاهرات مؤقتاً، لكنّه يضاعف منسوب الغضب ويشوّه صورة المغرب دولياً، وهو مقبل على مواعيد تنظيم تظاهرات رياضية كبُرى يُفترض أن تكرّس صورته بلد الاستقرار والانفتاح. ويبقى الخيار السياسي وحده القادر على إحداث انفراج: إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، مراجعة المقاربة الأمنية وإعادة هيكلة قطاع أمني حوّل المغرب دولةً بوليسيةً، فتح المجال أمام صحافة حرّة وتوسيع هامش وسقف النقاش العمومي، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع عبر إصلاحات جريئة تشمل انتخابات مبكّرة وقوانين انتخابية أكثر ديمقراطية. الكرة في النهاية ليست في ملعب الشباب وحدهم، بل في ملعب الدولة، التي إن واصلت إنكار الحقائق وتضييع الوقت، ستجد نفسها أمام موجاتٍ أعنف وأعمق. اللحظة الراهنة فرصة نادرة لإعادة وصل ما انقطع بين السلطة والمجتمع، لكنّها فرصة تتطلّب شجاعةً سياسيةً وقراراتٍ سياديةً تعيد رسم أفق جديد، قبل أن تتكرّس القطيعة نهائياً. اللحظة الراهنة فرصة نادرة لإعادة وصل ما انقطع بين السلطة والمجتمع، لكنها تتطلّب شجاعة سياسية وقرارات سيادية اللحظة الحالية، إذن، لحظة مفصلية. فهي تكشف حدود النموذج القائم على الضبط الأمني والاستثمار في الصورة الخارجية التي تركّز في المظاهر أكثر من تركيزها في الإنجازات، على حساب معالجة الأعطاب البنيوية الداخلية المزمنة، وتضع المغرب أمام تحدّي الاعتراف بأن السياسة لا تُختزل في مؤسّسات شكلية وواجهات جميلة، بل تعني فتح أفق حقيقي للنقاش العمومي والمحاسبة والإصلاح. "جيل زد" ليس شبحاً عابراً، بل مرآة تعكس اختناقاً اجتماعياً وسياسياً طويلاً. تجاهل هذه المرآة أو محاولة كسرها بالقمع لن يُخفيا الحقيقة: أن جيلاً جديداً قرّر استعادة الفضاء العام وطرح أسئلة جوهرية عن العدالة والحرية والكرامة. أسئلة كثيرة تفرض نفسها: إلى متى يمكن الاستمرار في سياسة الإنكار؟ وهل يكفي الصمت الحكومي أو المقاربة الأمنية لتبريد الشارع؟ وإلى أيّ حدّ سيكون المغرب قادراً على إخماد هذه الشرارة وتحويلها إلى بداية دورة سياسية جديدة أكثر انفتاحاً وجرأة، بدل أن تتحوّل حلقةً جديدةً في تاريخ طويل من الهزّات المُؤجَّلة والانفجارات المتكرّرة؟ التجارب السابقة داخل المغرب وخارجه توحي بالعكس: الحلّ الأمني قد يُربح وقتاً، لكنه يخسر معركة الشرعية والإصلاح على المدى البعيد.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية