عمار البيك (2/ 2): "هذا ليس مجرد فيلم بل جزءٌ من حياتي"
عربي
منذ 6 أيام
مشاركة
  (*) لم تكتب سيناريوهات أفلامك السابقة؟ كنت أكتب كثيراً، لكني تعلمت مع الوقت أن هناك مدارس كثيرة. أن عباس كيارستامي وكباراً آخرين يكتبون القليل بأفلامهم. مع ذلك، تكون الأفلام مهمّة جداً، ويكون الحكي فيها قليلاً. في السينما العربية حكي كثير، والصورة أضعف كثيراً. الحكي يقتل الصورة. السينما تحتاج إلى مساحة.   (*) بدأت مشوارك بأسلوب بصري قليل الكلمات. فيلماك الأولان ينطبق عليهما ما قلتَه. لكنك غيّرت الأسلوب لاحقاً، وصرت تعتمد على الحكي كثيراً. كانت هناك كتابة.   (*) تقصد كتابة سكريبت؟ كتابة ورق، لأني كنت أذهب إلى مطحنة قمح، أو محطة قطار. هناك أناس أرغب في التصوير معهم، لذا لا بُدّ من أن أكتب وأستعد لما أُريد أن أحكي فيه معهم. الآن، صرت أعرف كيف أنجز المونتاج على الورق، لأن الفيلم يمكن أنْ يستغرق ستة أشهر مونتاج، أو سنة أو سنتين كحدّ أقصى. "النقب" شدّني إليه 10 أعوام. تحوّل إلى نوع من علاج نفسي، وعلّمني ألّا أعطي حرية للفيلم أكثر من المطلوب، كي أصنع فيلماً آخر. هذا التعليم لا يمكن قراءته فقط في الكتب، لا بُدّ من أن أعيشه. الخبرة تُنضج الإنسان.   (*) المرجعيات السينمائية عندك كثيرة جداً، من العالم العربي والسينما العالمية. هذا واضح في "أسبرين ورصاصة". ألم تخف أو تقلق بأن يُقال إنها طغت على إبداعك الشخصي كمخرج؟ إذا علمتِ أن خارج الباب يقف برناردو برتولوتشي أو ألكسندر سوكوروف أو نعومي كاواسي أو جان ـ لوك غودار، متأكّدٌ أنّك ستبذلين أقصى جهد لمقابلتهم. هؤلاء، وصنّاع أفلام سمعنا عنهم وكانوا لنا مثالاً يحتذى، محظوظٌ أن الزمان والمكان جَمعاني بهم. لم أذهب إليهم فقط لأنهم موجودون، بل لأنهم فعلوا شيئاً يستحق التوقف عنده. جيدٌ أن يزيد الإنسان ذخيرته.   (*) فيه تفاصيل كثيرة، وتنوّع في الأفكار والقضايا، إضافة إلى قدرتك على أن تستخرج من والديك كل هذا الحكي. لكن، في الوقت نفسه، شعرت بقسوة في إصرارك على تصوير والدتك وهي في أضعف حالتها. كأنّ الفيلم كل ما يهمّك. ألم تشعر بالذنب أو بتأنيب الضمير؟ أبداً (يقولها بتلقائية حاسمة، وابتسامة مرحة).   (*) ولا حتى بعد وفاتها؟ (بصوت مبتهج): ما ضايقني حقاً أنها ماتت قبل مشاهدتها إياه. لأنه لو حدث، كنا سنضحك معاً. أمي وأنا صديقان جداً. علاقتنا قوية. في الفيلم، لم تكن ضعيفة. كانت قوية.   (*) في مشاهد منه، ضغطت عليها لتحكي، بينما أرادت الذهاب إلى دورة المياه، وأنت تُصرّ على أن تبقى جالسة أمام الكاميرا لتصوّرها. أمي وأنا يُوجد بيننا شيفرات نتعامل عبرها. هذه أول مرة في حياتي أضع الكاميرا أمامها. كنت أخشى أن أفقدها من دون تصويرها، وألّا يكون عندي منها ذاكرة مسجّلة. لكن، في هذه اللحظة أمام الكاميرا، لأول مرة في علاقتنا، يسود الصمت، كأن جداراً نشأ بيننا. لم تتحدث. لم ترِد التحدث، وأنا أعرفها. أعرف أن الجالسة أمام الكاميرا امرأة أخرى. إنها ليست امرأة صامتة. إنها تنتقد تفاصيل التفاصيل في حياتي، وتريد اختراق كل شيء، لأننا صديقان جداً. لذا، قررت استفزازها. ولأنها تُدرك أني أستفزها، كانت تشتمني ضاحكة. كان الأمر كلعبة، عند استفزازها تُظهر شخصيتها الحقيقية، هذا يتضح في لقطات. عندما قالت: "تبّاً لك وللسينما. إذا كانت كل السينما هكذا، فأنا لا أريدها" (بلكنتها المحلية). هذه الجملة لا تُشعرني بأي ذنب. على العكس، أعيش بسعادة، لأن قصدها: "تبّاً لك وللسينما كلها، لأن علاقتي بك أهم".     (*) الإشكال أن الجمهور يُشاهد ولا يعرف قوة علاقتك بأمك، ولا يدري شيئاً عن الشيفرات بينكما. أيضاً، كان عندي تحدّ ورغبة في الانتقام منها ومن أبي، لأن علاقتهما مُربكة لي، إذْ إنهما انفصلا حين كنت في الرابعة من عمري. لكن، من دون طلاق على الطريقة العربية، حماية لي من التعقيدات النفسية. شخصيتي أصبحت معقّدة للغاية. كان أبي موجوداً، لكنه غير موجود. في الفيلم، يلتقيان لأول مرة بعد سنوات طويلة. هذا تحدّ كبير. كانا سبب وجودي في العالم، وحرماني من الحياة معهما معاً. السينما أخطر سلاح في تاريخنا. وأنا سلاحي السينما. كنت أريد لا الانتقام منهما، بل من الظروف. هذا الفيلم ساعدني كثيراً على التحرّر من عقدة الماضي في علاقتي بهما، لأنّ علاقة صداقة قوية ربطتني بأبي أيضاً، رغم أني لم أعش معه كل حياتي.   (*) لماذا اخترت لفظ Trepanation، الذي يعني "الثقب في الجمجمة" ليكون العنوان الإنكليزي للفيلم؟ لأنه قاس. الأساس في العلاج المياه. فيها شيء روحي. يقال إنها تُحدث ضغطاً كبيراً في الدماغ. لذا، يصير النقب متنفّساً. هذا نوع من العلاجات القديمة موجود إلى الآن. لاستخراج قطعة المعدن الكبيرة التي في رأسه، احتاج أبو علي إلى نقب ليُشفى. كل إنسان يحتاج إلى عملية النقب لنفسه، ليُشفى. هنا، يبلغ النجاة.   (*) رسائلك مع رنا عيد بشأن شريط الصوت ميزة كبيرة، لأن رنا مشهود لها بموهبة غير عادية في صنع شريط الصوت. المدهش أنك لاحقاً قررت القيام بنفسك بالمهمة. كيف بدأت العمل عليه؟ لماذا قررت أن تغامر، وتفعل ذلك بنفسك؟ أتذكر مقولة عن فن المونتاج: "إذا كان المخرج يدفن عمله، فالمونتير يُعيد إحياءه". أعتقد أيضاً أن لرنا أسلوباً مختلفاً تماماً. رنا صديقة لي منذ سنوات. فنانة تعرف المعنى الحقيقي لشريط الصوت، وأن الشريط صديق الصورة. كما تقدر على خلق عوالم من الصوت. منذ سنوات، أتمنى العمل معها. من ناحية أخرى، لرنا إنتاج والتزامات. عملها لساعات له ثمن، وأنا مخرج مستقل، لا أحب أبداً طلب شيء غير قادر على دفع ثمنه. أردتُ أن ترى الفيلم وتعطيني تصوّراً. لكن، هناك حرب في بيروت، والمنتج المشارك معي وأنا غير قادِرَين مادياً على الإنفاق على الفيلم، فشعرت بإحراج. لذا، استخدمت هذا المقطع كتكريم لها، لكونها تفهم ماذا يعني شريط الصوت.   (*) كيف تعاملت مع شريط الصوت؟ أعرف أن عندي أخطاء، وأني سأعمل مرات أخرى عليه، فأنا أتعلم. لكن، بعد محاولات فاشلة للعثور على مونتير/ة، أدركت أنه من شبه المستحيل إيجاد شخص يستطيع خوض غِمار هذه التجربة الطويلة زمنياً، وبالتالي يخرج الفيلم من أنه مجرد فيلم، ليصبح مساحة علاج من صدمات اللجوء المُتعددة والمُتكررة في الـ 15 عاماً الماضية. هذا شجعني على بدء فيلمي مع منتجي جيل ساندوز، وتحديداً عندما قال: "هذا ليس مجرد فيلم، بل جزء من مسيرة حياتك".   (*) عندك تيمة تتكرّر بين مفاصله، كأنها اللحن الأساسي. هل وضعت خطة، أم إن شريط الصوت جزء من التجريب أيضاً؟ نوع الصورة التي تستند إلى التجريب يحتاج إلى تجريب في الصوت. أحياناً، يتصارع الصوت والصورة، وأحياناً أخرى ينسجمان معاً. في النهاية، "السينما صوت وصورة"، كما قال روبر بريسون.   (*) أيضاً في رسالتك إلى رنا عيد، أخبرتها بأنك بدأت المونتاج والعمل على شريط الصوت منذ 10 أعوام. هل كنت، مع كل مشهد تصوّره، تتخيل له موسيقى محددة، وتضع تصميماً مبدئياً لشريط الصوت، ثم أعدت الاشتغال في النهاية بالفيلم، هناك شخصيات، فلسطينية تحديداً، قُسّمت حواراتها بين لقطات ومشاهد متباعدة. عندما بدأت التصوير، كنت أرغب في إنجاز المونتاج في المخيم. بعد خمسة شهور، أصبح لدي فيلم مدّته ثلاث ساعات من لقطات مُصوّرة بالمخيم. لكني شعرت بأنه ليس فيلماً. كانت تلك البداية. بالتوازي، عملت على مونتاج "سوريا الحلوة"، الذي عُرض في فبراير 2015، في برليناله. هناك فيلم انتهى، وآخر لم ينتهِ إلا بعد سنوات طويلة، لكنه مختلف تماماً.     (*) أول لقطة من "النقب"، تظهر مع المنتج الفرنسي في منزله، ممسكاً بقطعة صابون من سورية، وأنت تقول له: "هذه اللقطة ستكون نهاية الفيلم". لكنك تختم الفيلم بلقطة أخرى مختلفة تماماً. لماذا؟ كانت اللقطة في النهاية. قال غودار: "بداية، وسط ونهاية. ضعها في أي مكان تريد". أعرف المنتج ساندوز منذ عام 2003. التقينا في موقع تصوير، ثم سافر. شاهد أفلامي، وقال إنه يمكن التشارك في إنتاج فيلم. كان شريكاً مع أمبير بلزان. والدته من أصل سوري. التقيته بباريس عام 2005، واتفقنا أنْ نشتغل فيلماً. بدأنا كتابة سيناريو. ثم بدأت العمل على فيلم آخر مع هالة العبدالله. هذا المنتج منحني الحماسة. عندما انتهيت من الفيلم، فكّرت في أن أعرضه عليه، ليس ليُشاركني مادياً أو توزيعاً. أبداً. لكن، تكريماً له، فهو منتج له أفلام مهمة، وفائز بـ"سيزار". هذه نهاية الفيلم، لأني التقيته عام 2025. أما بداية الفيلم، فكانت عام 2011.   (*) تجربتك مع هالة العبد الله الوحيدة المشتركة في الإخراج. أصحيح هذا؟ هناك تجربة مع زوجتي الأولى، في "عندما أُلون سمكتي" (روائي قصير، 2001، تمثيل وإخراج مشتركان ـ المحرّرة). التجربة لي ممتازة. مع هالة، هناك "أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها" (العنوان مقتبس من قصيدة للشاعرة السورية دعد حداد ـ المحرّرة). الفيلم صوت هالة.   (*) هالة كتبت السيناريو، فما الذي دفعكما إلى شراكة إخراجه؟ كانت تكتب سيناريو طويلاً بشكل متقطع، في سنوات. خريجة مدرسة السينما بباريس. انشغالها مع المخرجين عطّلها عن خوض تجربة أولى في الإخراج. عندما وجدت منتجاً، وبدأت أكتب فيلمي، كانت هالة تحكي لي تجربتها مع الفيلم آنذاك. في لحظة معينة، لم أعد أرغب في مواصلة سيناريو فيلمي. شعرت بأن هناك تجربة أخرى ستفيدني، فقرأت ما كتبته، وبدأنا التصوير. كانت تصوّر لقاءات مع صديقات ثلاث لها، فواصلنا العمل، وقمنا بجولة في سورية، ثم أعدنا الكتابة بالكاميرا، صوتاً وصورة وورقاً. كانت كتابة لا حدود لها. لذا، قررنا أنه سيكون فيلم لهالة العبد الله، إخراج هالة وعمار. المؤكّد أنه صوت هالة.   (*) إذاً، اشتركتما في إخراج هذا الصوت. لكنك، حين تحكي عن تلك العلاقة في العمل، يبدو لي أنها كانت تسير بسلاسة ومن دون أي صراع، وهذا نادر. العلاقة السينمائية كانت تسير بسلاسة، لكنها تحتاج إلى حرب. كان المونتاج يتمّ في البيت حيث تعيش مع ابنتها وزوجها بباريس. أحياناً، كنا نختلف، وأتركها. كان هناك صراع حقيقي، لكننا كنا سعيدَين. كان الصراع لأجل الفيلم.   (*) هل يمكن أن تخوض تجربة الإخراج المشترك مجدداً؟ أصبحت متطلباً كثيراً. تكسير القواعد أصبح ملحّاً عندي، لخلق قواعد جديدة. لا أستطيع قول لا أو نعم. سيكون هذا خاطئاً، لأنه لا يمكن التنبؤ بالمستقبل. الإبداع السينمائي يستحضر الأشخاص.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية