عن صراع السرديات في سورية
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
وكأن سورية لا ينقصها، فوق التحدّيات السياسية والأمنية والاقتصادية الكبرى التي تواجهها وتعمّق الهوّةَ بين مختلف مكوّناتها، على خلفيات إثنية وطائفية وقبلية ومناطقية، إلا معركة إضافية حول حقيقة ما جرى في الأيام الـ 12 التي انتهت بسقوط الأسد ونظامه، بين 27 نوفمبر/ تشرين الثاني و8 ديسمبر/كانون الأول 2024. صراع السرديات هذا ظلّ على الهامش منذ سقوط النظام، لكنّه اكتسب زخماً بعد تصريح للرئيس الانتقالي أحمد الشرع عن حصول تفاهمات مع الروس عقب معركة حماة، أدّت إلى تفادي القتال في الطريق إلى دمشق، سواء من الشمال أو من الجنوب. يعكس هذا الصراع مقدار الاحتقان الذي يعيشه الشارع السوري، بين تيّار ينسب الفضل في إسقاط نظام الأسد إلى "عبقرية" وتخطيط وتنظيم واستعداد طويل لفصائل المعارضة، وفي مقدمها هيئة تحرير الشام، ويبني على هذه السردية شرعية حكمها، وتفرّدها بقيادة البلد تحت شعار "من يحرّر يقرّر"، وتيار آخر يرى أن الهيئة جاءت محمولةً إلى السلطة بتفاهمات دولية، يساعده في ترويج فرضيته تلك الغموض الذي ما زال يلفّ مسائل عديدة، مثل هُويَّة الجهة التي أصدرت أوامر إلقاء السلاح والانسحاب الكيفي لقوات النظام، بما في ذلك من منطقة الجبهة في الجولان، ومجريات اجتماعات الدوحة ليلة سقوط النظام، وسلوك روسيا وإيران في أثنائها، وترتيبات الساعات الأخيرة لهروب الأسد. وجاءت تصريحات الشرع أخيراً لتقدّم ذخيرةً إضافيةً لأنصار هذا الاتجاه. هدف هذه السردية طبعاً نزع الشرعية عن النظام الجديد، وتصويره كأنّه نتاج صفقة دولية، وعلاقات تخادم أمنية، وتعهدّات قُطِعتْ بخصوص العلاقة مع إسرائيل، وتوجّهات السياسة الخارجية السورية، عموماً. بين هذين التيّارَين، يقف تيّار ثالث يرفض زعم السرديتَين، ويرى أن الانهيار الصادم لنظام الأسد شكّل مفاجأةً للجميع، بمن فيهم هيئة تحرير الشام وتركيا والعرب وإسرائيل وإيران وروسيا، وحتى الولايات المتحدة، بإقرار وزيرَي الخارجية والدفاع في إدارة الرئيس بايدن، أنتوني بلينكن ولويد أوستن. ورغم أن الجميع كان يدرك ضعف الأسد، إلا أن أحداً لم يتوقّع ذلك القدر من الهشاشة التي بات عليها نظامه بفعل خمس أزمات كبرى تضافرت، عصفت به في السنوات الخمس الأخيرة من عمره (2020 - 2024)، وفتّته من الداخل، حتى صار أشبه بالجبنة السويسرية. الأزمات الخمس بالترتيب: أزمة المصارف اللبنانية (2019) التي حرمت النظام من أهم مصادر تمويله بالعملة الصعبة، وأزمة كورونا (كوفيد- 19) التي شلّت سلاسل التوريد العالمية، رافعةً أسعار الغذاء والشحن إلى مستويات قياسية، و"قانون قيصر" الذي أقرّه الكونغرس الأميركي، ووقّعه الرئيس ترامب في ديسمبر/ كانون الأول 2019. أسفرت هذه الأزمات الثلاث عن انهيار الوضع الاقتصادي والاجتماعي والصحّي في البلد، مع تدهور سعر صرف الليرة السورية، وارتفاع التضخّم الذي بلغ في يونيو/حزيران 2020 (مع دخول قانون قيصر حيّز التنفيذ)، 580%. لكن مصائب النظام لم تتوقّف هنا، إذ اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/ شباط 2022، مضطرّة الرئيس بوتين إلى سحب جزء كبير من قواته من سورية ليزجّها في أوكرانيا، لذلك عندما بدأت المعارضة السورية هجومها في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، كان عدد الطائرات التي تملكها روسيا مثلاً في قاعدة حميميم لا يتجاوز ثماني طائرات، مقارنة بـ48 عام 2016، ما يفسّر ردّة الفعل الروسية الضعيفة تجاه التقدّم السريع الذي حقّقته فصائل المعارضة. كما غابت من الساحة أيضاً جماعة فاغنر، التي أُعيدت هيكلتها بعد التمرّد الذي قاده زعيمها يفغيني بريغوجين، في يونيو 2023. وقد سُحِبتْ الجماعة من سورية ووجّهتْ إلى أفريقيا تحت مسمّى "فيلق أفريقيا" الروسي. وعليه، عندما شنّت المعارضة هجومها لم يكن لدى بوتين ما يستطيع تقديمه للأسد الذي التمس دعمه عندما التقى به في موسكو عشية سقوط حلب (29 نوفمبر 2024). وكانت عملية "طوفان الأقصى"، والحروب التي شنّتها إسرائيل على امتداد المنطقة في أثرها، بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير، إذ تسبّبت في القضاء على الوجود العسكري الإيراني في سورية، وتدمير قدرات حزب الله القتالية، الحليف الرئيس لنظام الأسد. النظام كان "ميّتاً سريرياً" إذاً عندما انطلقت "عمليات ردع العدوان"، لكن هذا القول لا ينبغي أن يحجب حقيقة أنه لولا امتلاك فصائل المعارضة الجرأة، وحسن قراءة المشهد الإقليمي والدولي، واتخاذ الاستعدادات اللازمة بانتظار الفرصة المناسبة للتحرّك، لكان الأسد (على ضعفه) ما زال مقيماً اليوم في دمشق. خلاصة القول: أن الأسد سقط بفعل عوامل خارجية، لكن قرار إسقاطه كان سورياً.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية