أسبرطة واقتصاد الحرب في إسرائيل
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
حين تحدّث رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو، في منتصف شهر أيلول/ سبتمبر، عن ضرورة التكيّف مع اقتصاد مكتفٍ ذاتيّاً، مشبهاً إسرائيل بأسبرطة عظمى، ثارت عاصفة من ردات الفعل القلقة في تل أبيب. فتلك التصريحات لم تكتفِ بلمح العزلة المتزايدة التي تعيشها إسرائيل، بل طالبت بالتأقلم معها "خلال السنوات المقبلة"، وتماهت مع مفهوم اقتصاد الحرب، حيث يتم توجيه القطاعات المحلّيّة لخدمة المجهود العسكري ومتطلّبات الأمن والدفاع. كانت تلك العبارات مجرّد صدمة لفتت نظر الأسواق إلى حقيقة قائمة بالفعل منذ الربع الأخير من العام 2023. فإسرائيل، على امتداد العامين الماضيين، كانت تتجه شيئاً فشيئاً إلى اقتصاد من هذا النوع. وما يتحدّث عنه نتنياهو لم يكن سوى سياسة رسميّة، تم اعتمادها بموازاة الحرب التي تخوضها إسرائيل على جبهاتها المختلفة. خلال العام الماضي، ارتفع إنفاق إسرائيل العسكري بنسبة ناهزت 65% على أساس سنوي، ليبلغ حدود 46.5 مليار دولار، وفق تقديرات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، ما شكّل أعلى مستوى لهذه النفقات بتاريخ إسرائيل. وبهذا الشكل، بات حجم النفقات الدفاعيّة الإسرائيليّة يوازي 8.8% من الناتج المحلّي الإسرائيلي برمّته، ما يشكّل ثاني أعلى نسبة من هذا النوع في العالم، بعد أوكرانيا. وبطبيعة الحال، لم يكن ممكناً تمويل هذه النفقات العسكريّة من دون تغييرات جذريّة في هيكليّة الميزانيّة العامّة الإسرائيليّة. إذ حلّقت نسبة العجز فيها العام الماضي إلى 6.9% من الناتج المحلّي، مقارنة بـ4.2% فقط في العام 2023، فيما كانت الميزانيّة العامّة قد سجّلت فائضاً خلال العام 2022. وكانت النتيجة البديهيّة تضخّم الدين العام الإسرائيلي، الذي ارتفع بحسب أرقام وزارة الماليّة من 60.8% من الناتج المحلّي عام 2022، إلى مستويات تتجاوز 69% في أواخر العام الماضي. على هذا النحو، لم يعد الدفاع بنداً من بنود الميزانيّة العامّة الإسرائيليّة، بل أصبح إطارها المهيمن والمُحدّد. وغدت ماليّة الدولة أداةً وظيفتها الأولى إعادة توجيه الموارد العامّة والخاصّة لتمويل المجهود الأمني والدفاعي، ولو على حساب استدامة الدين ومستويات العجز، والأدوار الاجتماعيّة والتنمويّة للحكومة. ولم يكن هذا الواقع مجرّد حالة استثنائيّة عابرة العام الماضي، حيث استمرّ هذا النمط خلال العام الحالي، مع توقّع ارتفاع النفقات الدفاعيّة إلى قرابة 9% من الناتج المحلّي الإسرائيلي. سرعان ما تلقّفت الأسواق الماليّة التداعيات الخطيرة لهذا التحوّل في بنية الماليّة العامّة لإسرائيل. فحين خفّضت وكالة موديز العالمية تصنيف إسرائيل للمرّة الأولى في تاريخها، في شباط/ فبراير 2024، جاء ذلك تحذيراً أوليّاً من كلفة الحرب الجارية. لكن تخفيضها الثاني في أيلول/ سبتمبر 2024 بمقدار درجتين دفعة واحدة، جسّد قناعة بأنّ الوضع القائم لم يعد ظرفياً أو طارئاً، وأن إسرائيل انتقلت من اقتصاد نمو إلى طور ممتد من اقتصاد الحرب المستمرّة. وفي النتيجة، صارت إسرائيل أقرب إلى وضع "الاستثمار المحفوف بالمخاطر". ترافقت هذه التحوّلات الماليّة مع تحوّلات موازية في بنية الاقتصاد الإسرائيلي نفسه. فخلال العام الماضي مثلاً، هبطت الاستثمارات في الأصول الثابتة في إسرائيل بحوالي 6%، بينما انخفض حجم التصدير الإجمالي بنسبة 5.6%. وكان ذلك مجرّد نتيجة للمصاعب التي تعرّضت لها معظم القطاعات الإنتاجيّة، بفعل استدعاء الاحتياط إلى جبهات القتال، وإقفال السوق في وجه العمالة الفلسطينيّة، وتعطّل بعض سلاسل التوريد، فضلاً عن مخاوف المستثمرين من المخاطر الجيوسياسيّة. لكن في المقابل، استفادت قطاعات محدّدة من الانتقال نحو اقتصاد الحرب. فخلال العام الماضي مثلاً، ارتفع حجم الصادرات العسكريّة الإسرائيليّة إلى 14.7 مليار دولار، ما شكّل قفزة بنسبة 13% قياساً بالسنة السابقة. وهذه الأرقام كانت نتيجة للدعم الذي تلقّته شركات تصنيع السلاح من قبل الحكومة لزيادة قدرتها الإنتاجيّة وتطوير سلاسل توريدها، حتى لو تم توجيه جزء من الإنتاج للتصدير لا للاستخدام المحلّي. وبذلك كانت القاعدة الصناعيّة الإسرائيليّة تتجه نحو التسليح والعسكرة، ما يتناسب بشكلٍ تام مع صورة اقتصاد الحرب. في خلاصة العام 2024، اقتصر النمو الاقتصادي على نسبة لم تتجاوز 1%. لكنّ نسبة النمو الضئيلة هذه لم تتحقّق إلا بزيادة الإنفاق الحكومي بنسبة مرتفعة ناهزت 13.7%، وهي زيادة ذهبت بشكلٍ أساسيّ لتمويل الجهد العسكري والأمني. وتظهر نتائج هذا الواقع من خلال مراجعة نتائج أعمال شركات تصنيع الأسلحة الإسرائيليّة، حيث ارتفعت أرباح شركة رفائيل على سبيل المثال بنسبة 64% خلال العام الماضي، فيما بلغت هذه النسبة 55% بالنسبة لشركة Israel Aerospace Industries. هكذا كانت ترتسم صورة جديدة لاقتصاد مختلف: فبينما تنكمش أنشطة القطاعات الاقتصاديّة المدنيّة بسبب تداعيات الحرب، تزدهر أنشطة الشركات التي تخدم المجهود الحربي. والحرب نفسها أصبحت وسيلة لاستعراض تقدّم الصناعات العسكريّة الإسرائيليّة وتسويقها في الخارج وتأمين الطلب عليها لزيادة القدرة الإنتاجيّة العسكريّة محلياً. والسياسات العامّة للدولة، بما فيها السياسة الماليّة، ليست سوى وسيلة لتحقيق هذا الغرض، عبر الحوافز السخيّة التي نعمت بها شركات تصنيع الأسلحة من المال العام. ما يحصل اليوم ليس غريباً عن تاريخ إسرائيل وهويّتها. فمنذ النكبة عام 1948، ولغاية منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، قامت إسرائيل على اقتصاد موجّه تقوده الحسابات الأمنيّة والعسكريّة. إذ سيطرت الدولة على أغلب القطاعات الإنتاجيّة الكبرى، وربطت الصناعات الوطنيّة بأهداف الإنتاج العسكري، فيما تم توجيه الدعم المالي الخارجي لدعم الجيش والدفاع بشكلٍ أساسي. وحتّى الخطط التنمويّة كانت امتداداً لخطط الاستيطان والتوسّع، التي تختلط بدورها بحسابات وأهداف الأمن. حاولت إسرائيل، منذ تطبيق "خطّة الاستقرار" عام 1985، أن تعيد تعريف هويّتها الاقتصاديّة من خلال تحرير السوق والاندماج في الاقتصاد العالمي واجتذاب الاستثمار الأجنبي. غير أن نتنياهو، بحديثه عن أسبرطة العظمى والتكيّف مع العزلة والاكتفاء الذاتي، عاد ليذكّر إسرائيل بجذورها وطبيعتها الأولى، بوصفها قاعدة عسكريّة ذات تطلّعات استيطانيّة وتوسعيّة. وهذه النظرة طبّقها نتنياهو بالفعل منذ أواخر العام 2023. في دولة "أسبرطيّة" من هذا النوع يكون الاقتصاد وسيلة في خدمة حسابات الأمن والدفاع، بدل أن تكون السوق في حماية الدولة. إن كل ما يجري يفترض أن يدفع دول المنطقة للاستنتاج بأنّ النخب الحاكمة في إسرائيل ما زالت تفكّر بعقليّة الحرب الممتدّة، لا الصفقة القريبة أو السلام الوشيك. وهذه النخب تقود دولتها كقاعدة عسكريّة تستعد لاستنزاف طويل، ولو أدّى ذلك إلى تحميل شعبها واقتصادها أعباءً داخليّة ثقيلة. إن اليمين المتطرّف الحاكم اليوم في تل أبيب لا يتصرّف على قاعدة الاستعداد لتقديم أي تنازلات ذات معنى على طريق تحقيق السلام المستدام في المنطقة. وعليه، لا يمكن لدول المنطقة العربيّة الوصول إلى السلام عبر انتظار التنازلات الطوعيّة من النخبة الحاكمة اليوم في تل أبيب. فالسلام الشامل ليس هدف هذه النخبة، وسياساتها لا تقود إلى سلام من هذا النوع. وعلى دول المنطقة العربيّة البحث عن تحالفات اقتصاديّة وسياسيّة، وعن أدوات التكامل على المستوى الإقليمي، لتحقيق الحد الأدنى من التوازن والاستقرار. أمّا سياسات العزلة والاكتفاء الذاتي، التي يبحث عنها نتنياهو فستكون كفيلة بإعادة إسرائيل إلى الوراء تنموياً واقتصادياً، لا العكس.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية