
عربي
كشفت الثورات الشبابية التي أسقطت الأنظمة في عدة بلدان عربية والأحداث التي رافقتها في بعض المحافظات السورية في ما سمي الربيع العربي عن هشاشة بنيان حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سورية منذ ما يزيد على ستة عقود، وهو الذي مضى على تأسيسه قرابة 65 عاماً لم يقدم فيها للأمة إلا بيانات الحزب المزدحمة بالشعارات على مدى سنوات عمره تذكرنا بقائمة بأسماء قادته المتهمين، تبدأ من ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأعضاء قيادتهما المؤسسين، مروراً بأمين الحافظ وصلاح جديد ونور الدين الأتاسي ويوسف زعين ورفاقهم، ورفعت الأسد وعبد الحليم خدام وزبانيتهما، وحافظ الأسد الذي ألّه نفسه ولم يشرك معه أحداً، ومساعديه مثل عبد الحليم خدام ومصطفى طلاس ومحمود الزعبي وغازي كنعان وعلي دوبا ومحمد عمران وعشرات غيرهم. معظمهم ماتوا أو قتلوا وهم يحملون عار الخيانة والعمالة الذي ما زال معلقا في رقاب الأحياء الهاربين منذ سقوط الطاغية بشار الأسد، ولا يختلف واقع قيادة البعث في العراق عن واقع القيادة السورية منذ علي صالح السعدي حتى "الإله الثاني" صدّام حسين وعصابته، مروراً بقيادات نكرات مسحهم صدام من خريطة الأحياء بيده من دون أن يرفّ له جفن.
ظاهرياً وإعلامياً كان حزب البعث يضع تحرير الأراضي المحتلة على رأس أولوياته، إلا أن الواقع كان يؤكد أن ما يجري في الغرف السرية والاجتماعات المغلقة لقيادات الحزب مختلف عما تحمله الشعارات
منذ بدأ حزب البعث، الذي أصبح اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي بعد اتحاده مع حزب أكرم الحوراني العربي الاشتراكي، يعقد مؤتمراته تمهيدا لانتخاب قياداته عبر سنوات وجوده في الحكم كلها والإعلام الرسمي التابع له والمفروض على الشعب، يملأ الدنيا ضجيجا بالشعار العنوان "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، وشعارات رنانة مثل "وحدة حرية اشتراكية" وغيرها، حتى جاء حافظ الأسد بمادة حملت الرقم 8 تقول: "إن حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع" في الدستور الذي وضعه على مقاسه، فتحول الإعلام المدجن إلى التغني بموشحات يومية عن ديمقراطية وشعبية وعروبية وقومية، وأخلاقيات هذا الحزب المتسلط على مقدرات سورية وشعبها واستخدامها لمصلحة قياداته وعائلاتهم وأتباعهم ومرتزقتهم، وهي موشحات مكتوبة بلغة خشبية عفا عليها الزمن، ملأى بالوعود الكاذبة والشعارات الفارغة والأهداف الخلبية، والخطط التنموية المزيفة، والتمجيد حتى التأليه لقياداته البائدة الفاسدة التي يتحول معظمها إن لم يكن جميعها إلى مجموعة من السفاحين والقتلة واللصوص والخونة والعملاء والمتآمرين، حسب توصيف بيانات الحزب لهم في المراحل المتعاقبة عند إقصائهم عن السلطة، ولا يخجل هذا الإعلام، كما هو حال مسؤوليه، من الحديث عن الشرف والنضال والبطولة والتضحية والعمل من أجل العمال والفلاحين وجماهير الشعب الكادحة التي يخنقونها يوميا بقانون الطوارئ والأحكام العرفية، وقبضة أصناف الأجهزة الأمنية الوحشية، وحالة الحرب المعلنة التي لم يبق منها إلا تجربة صفارات الإنذار كل سنة مرة لمدة دقيقة، ولن يكون حال الجولان المحتل بأفضل من حال لواء إسكندرون، الذي منحته فرنسا لتركيا عام 1939 بلا مقابل ودون وجه حق تحت مقولة "أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق".
رسمياً وظاهرياً وإعلامياً كان حزب البعث يضع تحرير الأراضي المحتلة على رأس أولوياته، إلا أن الواقع كان يؤكد أن ما يجري في الغرف السرية والاجتماعات المغلقة لقيادات الحزب مختلف عما تحمله الشعارات والهتافات في المسيرات الشعبية التي تنظمها الحكومة في كل المناسبات الوطنية حتى عيد الشجرة وعيد المعلم وغيرها، والدليل أن حرب تشرين التحريرية التي وصل فيها الجيش السوري في أيامها الأولى إلى ضفاف بحيرة طبريا، والجيش المصري حرر معظم سيناء، ولتنتهي الحرب بتوقيع اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل عُرفت باتفاقية كامب ديفيد، واتفاقية فض الاشتباك بين سورية وإسرائيل عرفت باتفاقية عام 1974، فيما كان حافظ الأسد يعلن بافتخار كاذب أننا انتصرنا لأننا حررنا الإرادة العربية.
لقد أعطى الحكام البعثيون لإيران وروسيا والتنظيمات التابعة لهما امتيازاتٍ كبيرة على مساحة الأرض السورية مقابل التحالف معهم وحمايتهم يوم الحساب الآتي بلا ريب، ولن ينجو منه مسؤول أو قيادي من أعلى المناصب إلى أصغر ضابط وموظف بعثي فاسد ولا يستثنى أحد، والصورة واضحة في آل الأسد ومخلوف والأحمر والشرع وطلاس وغزالي ودعبول وسليمان وآلاف الأسماء ممن كونوا ثروات هائلة لا يعرف أحد أين مستقرها لكنهم يعرفون مصدرها، وكثير منهم تنتشر قصورهم وقلاعهم في مختلف مناطق القطر وخاصة في منطقة الساحل، بينما ملايين الشعب السوري المسحوق بلا مأوى، وتعاني الفقر والجوع والحرمان حتى من أبسط احتياجات الإنسان ليعيش حياة عادية.
وقد عملت قيادات الحزب المتعاقبة على تدمير بنية الجيش السوري الذي كان عبر تاريخه رمزاً للبطولات والشموخ والانتصارات، وتحويله إلى جيش من الهتافين ورافعي الصور والشعارات الجوفاء، عبر تخريب عقليته القتالية واستعماله كأداة للقمع والتدمير الداخلي بدلا من حماية الوطن من العدو الخارجي، وأنشئت بدلا منه جيوش من المرتزقة والأتباع أفضل تسليحاً وتأهيلاً مهمتها حماية مؤسسيها وشركائهم وأعوانهم مثل (سرايا دفاع رفعت الأسد) و(حرس جمهورية ماهر الأسد والفرقة الرابعة بعد ذلك) و(الوحدات الخاصة والمغاوير والصاعقة) وغيرها تحت مسمى الجيش العقائدي، وكانت النتيجة تحول الجيش إلى كيان عسكري استهلاكي يشكل عبئاً على الوطن بدلاً من حمايته.
كيف استطاع حزب البعث العربي الاشتراكي أن يظل حاكماً في سورية والعراق لأكثر من خمسة عقود بأسلوب مختلف بينهما حتى العداء الدموي في معظم الأحيان الذي يكون ضحاياه من مواطني البلدين الشقيقين الأبرياء؟
ولم يكن حال المجتمع السوري بأفضل من الجيش، فقد عمل الحزب الحاكم على تخريب العلاقات الاجتماعية وتفكيك الأسر وتشويه القيم الاجتماعية من خلال منظمات ونقابات واتحادات وتجمعات فاشلة ألصقوا بها صفة الشعبية زوراً وبهتاناً والشعب منها براء ولا علاقة له بها ولا تمثله: نقابات ومنظمات الطلائع والشبيبة والطلبة والنساء والعمال والفلاحين والرياضيين والكتاب العرب والفنانين والنقابات المهنية وبقية المنظمات المشبوهة في تكوينها وأهدافها إطلاقا، لأن قياداتها أصلا لا تنتمي في الغالب إلى أي من هذه الفئات، لأنّها في واد آخر انتفاعي يقوم على الاستفادة من الموقع بكل المجالات المادية والاجتماعية والسياسية والانتهازية والجسدية وال.. قبل ترك الموقع والرحيل غالبا بفضيحة.
كما تحمل هذا المجتمع العظيم أشكال وأساليب القمع الإجرامي التي مارسها البعثيون من خلال الأجهزة الأمنية المتعددة الفروع والمهام، كالسياسي والعسكري والخارجي والمخابرات الجوية وغيرها، والتنظيمات شبه العسكرية الرديفة للجيش مثل كتائب البعث والدفاع الوطني وغيرها التي تتدخل في شؤون الحياة اليومية للمواطنين، وتمارس الابتزاز والتشليح "بمعناه الكامل" وفرض الخوات والإتاوات بأسلوب تهديدي مكشوف، ولعل ظاهرة "التعفيش" التي ولدت نتيجة التدمير الهائل في المدن والقرى والمنشآت والمؤسسات العامة والخاصة والبنى التحتية في كل مكان، خلال سنوات الحرب الوحشية التي افتعلها نظام الطاغية بشار الأسد المخلوع بحجة محاربة الإرهاب، وارتكب خلالها مجازر تفوق كل وصف، وجرائم حرب ضد الإنسانية استخدم فيها الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين العزل، هذه الظاهرة مارستها جهات عسكرية وشبه عسكرية يديرها مسؤولون بعثيون حتى صارت التجارة الأهم ولها أسواقها ومستودعاتها وتجارها ومديروها.
وبعد... السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: كيف استطاع حزب البعث العربي الاشتراكي أن يظل حاكماً في سورية والعراق لأكثر من خمسة عقود بأسلوب مختلف بينهما حتى العداء الدموي في معظم الأحيان الذي يكون ضحاياه من مواطني البلدين الشقيقين الأبرياء؟ والجواب: تلك هي روح وفكر وأسلوب قيادات الحزب (صدّام حسين وحافظ الأسد)، اللذين مثّلا قمة النرجسية وتضخم الذات الأنوية الأكبر، وبالتأكيد أغلبية القيادات البعثية لم تقرأ المنطلقات النظرية في النظام الداخلي للحزب التي تحدد صفات القائد البعثي بأنه نموذج متميز بقيمه وأخلاقه ونزاهته وتعامله.
