
عربي
حظيت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى نيويورك بأهمية خاصة، ليس فقط لأنه أول رئيس سوري خاطب دول العالم من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عام 1967، بل لأنها شكلت حدثاً تاريخياً، روى فيها حكاية سورية، وقدّم من خلالها صورة سورية التي تريد الانفتاح على العالم والتعاون معه، والعودة إلى عضويتها الطبيعية في المجتمع الدولي، بوصفها طرفاً شرعياً مشاركاً في صياغة النقاشات العالمية، بعد أن واجهت إرثاً طويلاً من العزلة الدولية. وجاءت الزيارة في لحظة مفصلية من تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وفي ظل مشهد عالمي وإقليمي شديد التعقيد، حيث تُعاد صياغة الاصطفافات والتحالفات في منطقة الشرق الأوسط، التي تعيش على إيقاع الحروب المفتوحة من قطاع غزّة إلى السودان.
شكلت الزيارة اختباراً حقيقياً لموقف المجتمع الدولي من القيادة السورية الجديدة، سواء من خلال التفاعل مع كلمة الشرع، الذي جسّده الترحيب بها، أم اللقاءات المتعددة التي أجراها الشرع، خصوصاً مع عدة زعماء على هامش أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي أظهرت حجم الاستعداد للتعامل مع سورية الجديدة على أسس جديدة، وبما يحدّد طبيعة موقعها في الاصطفافات الدولية الجديدة.
على صعيد الداخل السوري، حملت مشاركة الشرع بعداً رمزياً ومعنوياً لعموم السوريين، بوصفها مناسبة كي يطلع العالم على الرواية السورية، ورسالة لاستعادة بلادهم مكانتها ومشاركتها في المحافل العالمية. وكان معبّراً جداً أن يبدأ الرئيس الشرع زيارته إلى نيويورك بلقاء الجالية السورية في الولايات المتحدة، وإطلاعهم على الوضع الداخلي والخطوات التي سيتخذها لرأب الصدع الحاصل، وعزمه على بناء البلد، وتمكين ناسها من العودة إلى بلادهم.
اتسم خطاب الشرع على منصة الأمم المتحدة بالشمول والتوازن، وروى فيه الحكاية السورية، التي تعدّ من عبر التاريخ في "معركة الحق والباطل، وتمثيل حقيقي للمعاني الإنسانية النبيلة"
ولعل الخطاب أو الكلمة التي ألقاها الشرع أمام الجمعية العامة في دورتها الثمانين، حملت دلالاتٍ ورسائل متعدّدة على المستويين، الداخلي والخارجي، إذ منحت الإدارة السورية الجديدة فرصةً من أجل عرض رؤيتها السياسية ومواقفها تجاه القضايا الإقليمية والدولية، وتبيان مساعيها للحفاظ على وحدة البلاد وإعادة إعمار ما دمّره نظام الأسد البائد، ومن ثم، يمكن اعتبارها خطوة هامة لإعادة تموضع سورية، بوصفها لاعباً ضمن المجتمع الدولي.
اتصف خطاب الشرع على منصة الأمم المتحدة بالشمول والتوازن، وروى فيه الحكاية السورية، التي تعدّ من عبر التاريخ في "معركة الحق والباطل، وتمثيل حقيقي للمعاني الإنسانية النبيلة"، حيث ثار الشعب السوري على نظام الاستبداد، الذي واجهه باستخدام كل أنواع الأسلحة، وأبشع أدوات التعذيب، وقتل نحو مليون سوري ودمّر نحو مليوني منزل، ولم يكن "أمام الشعب سوى تنظيم صفوفه وخوض معركة عسكرية توجت بنصر استعاد فيه حقه".
وحمل الخطاب عدّة رسائل إلى العالم، أهمّها أنّ سورية الجديدة تعتمد على ثلاث ركائز أساسية: "الاستقرار الأمني، والتنمية الاقتصادية، والدبلوماسية المتوازنة". ولتحقيق ذلك، تشكل ضرورة رفع العقوبات مسألة جوهرية للشعب والحكومة السورية، الأمر الذي يفسّر تركيزه عليها كي لا تتحوّل إلى "أداة لتكبيل الشعب السوري ومصادرة حريته من جديد"، خصوصاً أن سورية تخوض معركة "بناء نفسها من خلال التأسيس لدولة جديدة، عبر بناء المؤسسات والقوانين الناظمة التي تكفل حقوق الجميع دون استثناء".
ليس مصادفة أن يتزامن الخطاب مع إعلان وزارة الخزانة الأميركية تعديلاً شاملاً ونهائياً على اللوائح التي تنظّم العقوبات المفروضة على سورية منذ عام 2011، كونه يأتي استجابة للتحول السياسي في سورية بعد سقوط النظام البائد، ويهدف إلى تعزيز أدوات المساءلة القانونية بحقّ المتورّطين في الجرائم والانتهاكات. ولعل التسمية الجديدة تعبّر عن تحوّل جوهري في السياسة الأميركية، يركّز على ملاحقة رموز نظام الأسد، ويشمل أي جهةٍ تهدّد استقرار سورية.
على عكس ما كان يشاع حول إمكانية توقيع اتفاق أمني مع دولة الاحتلال الإسرائيلي في نيويورك برعاية أميركية، أو اتفاقية سلام، وما روّجته بعض وسائل الإعلام عن إمكانية عقد لقاء مزعوم بين الشرع ونتنياهو، لم يحصل شيء من هذا القبيل، فقد غادر الشرع نيويورك من دون أن يوقع أي اتفاق، على الرغم من حديثه عن إمكانية التوصل إلى اتفاقية أمنية مشابهة لاتفاق فض الاشتباك في عام 1974، الأمر الذي يشي بأن ما طالب به المجرم الملاحق دولياً نتنياهو لم يحصل عليه، وأن المحادثات لم تصل إلى مرحلة التوافق على شيء، على الرغم من ضغوط مارستها إدارة ترامب. ولم يتردّد الشرع في التعرّض للتهديدات والاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة ضد سورية منذ 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، والسياسات الإسرائيلية التي تعمل بشكلٍ يخالف الموقف الدولي الداعم لسورية وشعبها في محاولة لاستغلال المرحلة الانتقالية. كما أكّد دعمه أهل غزّة وأطفالها وباقي الشعوب التي تتعرّض للانتهاك، داعياً المجتمع الدولي إلى وقف حرب الإبادة فوراً، والوقوف إلى جانب سورية في مواجهة المخاطر الإسرائيلية واحترام سيادة الأراضي السورية ووحدتها.
على المستوى الداخلي، أشار الشرع إلى أن الإنجاز السوري الفريد، والتكاتف الشعبي الحاصل، دفع أطرافاً إلى محاولة إثارة النعرات الطائفية والاقتتالات البينية، سعياً إلى مشاريع التقسيم وتمزيق البلاد. وكرّر عبارة "نصر بلا ثأر"، إلى جانب تعهده أمام العالم بوقف روح الانتقام والثأر، و"تقديم كل من تلطّخت يداه بالدماء للعدالة". وعرض الخطوات التي اتبعتها إدارته، والمضي في إجراء انتخابات مجلس الشعب وهيكلة مؤسّسات الدولة، وبناء دولة القانون. ولم ينس شكر كل من وقف إلى جانب التحوّل السوري، وخصّ بالذكر قطر والسعودية وتركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
تعرّضت الأمم المتحدة لهجمات عديدة من نظام الأسد منذ انطلاق الثورة السورية في 15 مارس/ آذار 2011، لأنها طالبت بوقف قتل المحتجين والمتظاهرين السلميين
سورية والأمم المتحدة
شكلت نيويورك نافذة لتقديم الحكاية السورية، وفرصة للسوريين كي يعيدوا تعريف ذاتهم الوطنية باعتبارهم أبناء حضارة قدّمت الكثير للبشرية، بل قدّمت للأمم المتحدة نفسها الكثير، حيث كانت سورية من بين الدول المؤسسة للأمم المتحدة، ووقّعت على ميثاقها في مؤتمر سان فرنسيسكو في 26 يونيو/ حزيران 1945، وانضمت رسمياً في 24 أكتوبر/ تشرين الأول 1945. وبعد الخلاص من الانتداب الفرنسي عام 1946، دخلت سورية فترة من الاضطرابات السياسية، توالت خلالها انقلابات عسكرية بين 1949 و1970، بدأت بانقلاب حسني الزعيم في 30 مارس/ آذار 1949، وانتهت بانقلاب حافظ الأسد في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1970. وتعاقب خلالها رؤساء عديدون، لم يبق بعضهم في منصبه إلا بضعة أيام أو أسابيع قبل أن يُطاح، ولم يكونوا معنيين بالمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأم المتحدة لاعتباراتٍ داخليةٍ بالدرجة الأولى. ثم جاءت فترة الوحدة مع مصر (1958ـ 1961) وفقدت سورية رئيسها الخاص لصالح جمال عبد الناصر. ثم استعادت مقعدها باسم الجمهورية العربية السورية، بعد فشل تجربة الجمهورية العربية المتحدة عام 1961. وتوّج الحضور السوري في الأمم المتحدة بمشاركة الرئيس نور الدين الأتاسي، حين ألقى خطاباً بُعيد هزيمة حزيران (1967)، ثم امتنع حافظ الأسد عن حضور اجتماعات الأمم المتحدة خلال فترة استيلائه على السلطة في سورية، وسار على نهجه وريثه بشار الأسد.
تقف أسباب وحيثيات مختلفة وراء غياب رؤساء سورية عن المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، يعود بعضها إلى أولوية حساباتهم الأمنية، بل خوف معظمهم من حدوث انقلابٍ عسكري عليهم، خصوصاً في مرحلة الانقلابات العسكرية، ويعود بعضها الآخر إلى الشك في فاعلية دور الأمم المتحدة وعدم تنفيذ قراراتها. يضاف إلى ذلك تآكل الشرعية الدولية لنظام الأسد البائد الذي أدخل سورية في عتمة العقوبات. وقد رَسَّخَ عُرف الامتناع عن المشاركة الأممية عزلة طويلة امتدّت أكثر من نصف قرن، غاب فيها الصوت الرئاسي، فيما تولّت الوفود الدبلوماسية إدارة الاشتباك السياسي والحقوقي مع غالبية المجتمع الدولي داخل أروقة الأمم المتحدة.
أظهر ما جرى في سورية على مدى 13عاماً وجود أوجه قصور بهيكلية الأمم المتحدة، بما في ذلك الدور الذي لعبه "الفيتو" في عرقلة مساعي معالجة الأزمات والصراعات
تعرّضت الأمم المتحدة لهجمات عديدة من نظام الأسد منذ انطلاق الثورة السورية في 15 مارس/ آذار 2011، لأنها طالبت بوقف قتل المحتجين والمتظاهرين السلميين، وأدار النظام ظهره لكل المبادرات الأممية التي كانت تسعى إلى إيجاد حل سياسي في سورية، مستنداً إلى دعم كل من روسيا والصين، حيث استخدمت كل منهما حق النقض (الفيتو) ضد مشاريع وقرارات عديدة في مجلس الأمن، دعت النظام إلى وقف حربه أو تضمّنت فرض عقوبات عليه، الأمر الذي أدّى إلى تقييد قدرة الأمم المتحدة في إيجاد حل سياسي. وطاول التشكيك والعجز شرعية الأمم المتحدة نفسها وهيكليتها. وفي 2012 قدم المبعوث المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، كوفي عنان، خطة سلام من ست نقاط تهدف إلى إيجاد حل سلمي للأزمة، لكنه فشل ولم تبصر خطته النور. وتولى بعده الأخضر الإبراهيمي مهمّة المبعوث الخاص بين عامي 2012 و2014، وفشل أيضاً، بل قدّم اعتذاره إلى الشعب السوري. ثم شغل ستيفان دي ميستورا منصب المبعوث الخاص بين عامي 2014 و2019، وعقد جولات من المفاوضات في جنيف، تحت مسمّى "مشاورات" للتواصل مع مختلف المجموعات السورية، وساهم في 2018 في تأسيس اللجنة الدستورية السورية، لكن مهمّته انتهت إلى الفشل أيضاً، وتولّى المهمّة بعده غير بيدرسون منذ 2019، ورعى اجتماعات اللجنة الدستورية السورية، التي لم تتمكّن من وضع أي مادة دستورية، وانتهت إلى فشل ذريع. وفي 18 سبتمبر/ أيلول الحالي قدّم استقالته بعد أكثر من ست سنوات لم يحقق فيها شيئاً.
أظهر ما جرى في سورية على مدى 13عاماً وجود أوجه قصور بهيكلية الأمم المتحدة، بما في ذلك الدور الذي لعبه "الفيتو" في عرقلة مساعي معالجة الأزمات والصراعات. ولذلك تعرّضت الأمم المتحدة لانتقاداتٍ كثيرة، خصوصاً عندما لم تتخذ موقفاً حازماً عندما استخدم نظام الأسد أسلحة كيميائية في 21 أغسطس/ آب 2013 في هجومه على المدنيين في غوطة دمشق، ما أدّى إلى مقتل أكثر من 1400 مدني. الأمر الذي شجع النظام على ارتكاب مجازر عديدة بالأسلحة الكيميائية ضد المدنيين السوريين.
تغيّر الوضع في سورية بعد 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وحمل هذا التغير عودة سورية إلى المجتمع الدولي. ولذلك تعد مشاركة الشرع في أعمال الدورة السنوية الحالية للأمم المتحدة خطوة دبلوماسية تاريخية، لها دلالات سياسية عميقة، وحملت رسائل متعدّدة الاتجاهات. إنها صحوة من غيبوبة أمراض نظم الاستبداد، وخطوة هامة في طريق يعيد سورية إلى المجتمع الدولي، وبات من الضروري أن يترافق هذا المسار مع السعي إلى بناء نظام وطني ديمقراطي، يكون بمثابة الدرع الحامي لسورية الجديدة.

أخبار ذات صلة.

ما الذي نجا من الإبادة الثقافية؟
العربي الجديد
منذ 35 دقيقة