اللحى السورية
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
كما سارت الاكتشافات والاختراعات بالتوازي بين العالمين القديم والجديد قبل أن يكتشفا بعضهما. نمت اللحى على وجوه ذكور السوريين في سورياتهم المتنوعة. نمت لأسباب مختلفة، تباينت بتباين المزاج والظرف والتوقيت.  حين التقى العالمان القديم والجديد عام 1492 بوصول سفن كريستوفر كولومبس إلى شواطئ أميركا الوسطى، وجدوا أن أولئك البعيدين كانوا قد اخترعوا العجلة وروّضوا الحصان، ووصلوا بينهما ليصنعوا عربة، كانوا قد صنعوا القدور وأضافوا التوابل إلى الطعام، واخترعوا الأغنيات والحكايات.  تحارب العالمان، وارتكب الغزاة البيض مجازر رهيبة بحقّ السكان الأصليين، لكنهما، وخلال قرنين فقط، اندمجا، وصارا عالماً واحداً. احتفظ بكثير مما كان في العالمين السابقين اللذين شكّلاه.  في سورية الشمال الغربي (المحرّر) كانت اللحية إعلاناً عن الهوية الإسلامية التي سادت هناك، وانتماءً للقوى التي تقاتل ضد النظام.  في الشمال الشرقي (مناطق قسد) كانت لحية الشباب إعلاناً يقول: ليس لدينا الوقت لحلاقة لحانا، نحن نقاتل "داعش" الآن. وبيننا أخواتنا المقاتلات لا لحى لهن.  وفي سورية الوسط والغرب (سورية النظام) نمت اللحى موقفاً اقتصادياً وطبقياً ونفسياً، إذ شعر كثيرون من الحليقين أن ظروف الحياة من فقر وخوف وقمع لا تحتمل أن يهتم الرجل بمظهره، ولو بفعل بسيط كأن يكون حليقأ ومعطراً. وأنه بلحية غير مشذّبة سيكون أكثر شبهاً بنفسه وحياته، وأكثر اندماجاً بالناس الذين يجاورهم ويركب معهم في الميكروباص.  وهكذا وصلنا إلى لحظة صار فيها الجميع تقريباً ملتحياً، لحى بيضاء لكهول يعملون بتصليح البرادات، أو تدريس الخوارزميات في كليات المعلوماتية. لحى سوداء منسّقة بيد محترفين لشباب وسيمين، تنمو لحاهم لأن فتيات جيلهم بتن يفضلن الشاب الملتحي. لحى محنّاة بشوارب محفوفة، على وجوه رجال من أعمار مختلفة، ومشارب أكثر اختلافاً.  ثم انضم إلى هؤلاء رجال قضوا حياتهم السابقة حليقين، فأطلقوا لحاهم لأنها تجعل عبورهم على حواجز الأمن العام أكثر سهولة، بل إذا ما خالطتها نسبة كافية من الشيب، سيقول له شاب الحاجز: اتفضل شيخ.  بعض وسائل الإعلام تغمز أحياناً من لحى مسؤولي الدولة، خصوصاً الرئيس ومعظم الوزراء، للإشارة إلى خلفياتهم الإسلامية الجهادية، بينما تحولت اللحية إلى هوية سوريّة خالصة. وعلى كل خدٍّ لأسبابه الخاصة.  في مرحلة سابقة من تاريخنا، في الستينيات والسبعينيات تحديداً، كان هناك لحيتان في سورية، هما لحية الإسلاميين (الإخوان المسلمون وذوو الميول المتدينة بكل أطيافهم) واللحية اليسارية، التي رباها الشيوعيون والمثقفون ودوائرهم. وكان التمييز بين اللحيتين يتم بسهولة شديدة، من طريقة التشذيب، ومن اللباس المصاحب لها. فلحية اليسار كانت تأتي غالباً مع شعر أشعث و"فلد" عسكري، أو قبعة غيفارية، بينما تترافق اللحية الإسلامية مع جلباب أو بنطال قماشي وقميص مقلّم.  في ذلك الوقت كان يسهل تمييز النموذجين بسهولة، لأن اللحية لم تكن موضة معمّمة، وكانت ممنوعة في القطعات العسكرية والمدارس، وغير مستحبة في المؤسسات الرسمية والجامعات.  لم تعد اللحى السورية إعلان هوية. ولكنها تحولت إلى رمزٍ للحالة السورية الراهنة. والتي التقى فيها الجميع على الرمز الواحد، رغم أنهم جاؤوا إليه من طرق مختلفة، وبسرعات مختلفة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية