
عربي
ما يجري في سورية الجديدة من عملياتِ نَبذٍ وإقصاءٍ ورفضٍ للآخر؛ يَنِمُّ عن التعصب وغياب التسامح. بلْ ويذهبُ إلى الانتقام والتشفي، حتى من الموتى.
تسود لغة خطاب يوحي أنَّنا ما زلنا في سورية القديمة، سورية المزرعة. فما تَعرَّضَ له الكاتبُ المسرحي سعد الله ونّوس (1941 - 1997)، في الصحافة وعلى مواقع التواصل من استخفافٍ بمشروعه المسرحي من بعض كُتَّاب سورية الجديدة - وَلِنُسَمِّهِ هجوماً عليه؛ هو كَمَنْ يحفرُ للعقلِ السوري القديم والجديد مقبرةً جماعية ليموت- ليس موتاً بيولوجياً؛ بل موتاً حضارياً.
أَنْ نَشْتُم، نُقصي، نُشهِّر، ننفي، نَنتقِم، من أدبائنا الذين صنعوا نهضتنا العقلية لمجرَّد أننا انتقلنا من سورية القديمة إلى سورية الجديدة ليست شجاعة
الرجلُ في مسرحياته مثل: عندما يلعبُ الرجال، حفلةُ سمر من أجل 5 حزيران، الفيلُ يا ملك الزمان، سهرة مع أبي خليل القباني، المَلِكُ هو الملك، رحلةُ حنظلة من الغفلة إلى اليقظة (إعادة تأليف لمسرحية بيترفايس)، الاغتصاب، مُنمنمات تاريخية، طقوس الإشارات والتحولات، يومٌ من زماننا، الأيامُ المخمورة، وغيرها تصدَّى للاستبدادين السياسي والديني- لِنَقُل: العقائدي بكلِّ ألوانه. فانتقدَ حالة الاغتراب والاستلاب الإنساني الذي يعيشه السوري والعربي. وحاول أن يستعيد ذاك البطل الاشكالي في مسرحياته، لآنَّه ما عادَ هناكَ ذاكَ البطل العملاق ولا البطل الأخلاقي كما كانَ في آداب الأُمَم ِالغابرة.
بطلُ سعد الله ونوس في مسرحياته هو الناسُ التي تكافحُ ضدَّ موت العقل، وضدَّ قهر الحريَّة، فيُقيمُ الصراعَ ما بين التزمُّت والتطرُّف والغلق والجمود العقائدي، وما بين التسامح والانفتاح الحر على الثقافات والعقائد الأخرى. حاولَ أن يُطلق سراح الأفكار الإنسانية من سجون المعتقدات الاجتماعية والدينية المتحجِّرة المُتجبِّرة التي تتمسك بقشور الوعي وترفضُ الانفتاحَ والحوارَ والتفاعل الفكري مع ثقافة الآخر. كتب سعد الله ونوس، وهذه للذين يهاجمونه، مسرحاً بعقلٍ فلسفي نقدي عربي وليس طائفيا؛ ولا يقبل إلاَّ ما يقبله أو يرفضه العقل، فقد أقام انقلاباً فلسفياً في المسرح، فالسوري والعربي ليس وحده في هذا العالَم، إنَّما هناك شركاء يتقاسمون معه الحياة، منهم: الوصولي، الانتهازي، الخائن، الغبي، الذكي، الخبيث، الطيِّب، الشجاع، العاقل، المجنون، إلخ. ولكيْ يُفرجينا (أو يُفرجيهم) أنفُسَهُم، وكيف يذهبون إلى مصائرهم؛ إلى حتفهم، وبأسلوبٍ موضوعي/ ملحمي. فالإنسان عندما يَتحوَّل إلى "قن" في الأنظمة الاستبدادية عليه أن يُعَوِّض خسارَتَه، عليه أن يتمرَّد. وهذا ما دعا إليه سعد الله ونوس في مسرحياته التي كتبها أيَّام سورية القديمة.
أَنْ نَشْتُم، نُقصي، نُشهِّر، ننفي، نَنتقِم، من أدبائنا الذين صنعوا نهضتنا العقلية لمجرَّد أننا انتقلنا من سورية القديمة إلى سورية الجديدة ليست شجاعة. لأنَّ سعد الله ونوس لم يَجْبُنْ، وهو الذي بَدَّلَ وجهة المسرح السوري والعربي، فكتبَ مسرحياتٍ بغاية النبالة التاريخية والجمالية نالَ فيها من الحَاكمِ والحَاكمِ بأمرِه، فكشفَ عن وجوهه وعن أقنعته مهرِّجٍاً شيطانياً. حاكمٌ مُهرِّجٌ يبدو أمامنا وهو بكامل الوقار؛ فنرى صورتنا الممسوخة المُرعبة على أنَّنا نعيش في سورية الديمقراطية المدنية المُقاوِمة المُمَانِعة.
لِيَقُل الآخَرُ رَأيَهُ الذي أظهرَ فيه عداءَه، وشَنَّ حربه على سعد الله ونوس، والتي بدأها بمحو اسمه عن مدرسة، ومن ثمَّ تجريده من "عبقريته" وتشنيعه وتعنيفه من دون مُبرِّرٍ سوى أنَّه من مواطني سورية القديمة التي حكمها الأسدُ/ الضبعُ المُمَانِعُ بالحديد والنار، وكأنَّ هذا الآخر يُريدُ أن يحكمنا كما حكَمَنا ندُّه بالحديد والنار. ولكن لِنَعْلَمْ أنَّ هناك ضرورة وهناك احتمالا، وهو ما يأخذُ بالجدل نحو الحقيقة، وهذا ما كان يشتغلُ عليه ونّوس مسرحه، فيُريدُ من المُتفرِّج والقارئ أن يكون ملاحظاً، وناقداً عاقلاً، لا كائناً سلبياً يُعيدُ تدوير مآسينا على أنَّ ما يجري علينا هو (قَدَرْ) مثل: أنَّ خسارتنا وهزيمتنا في حرب 5 حزيران 1967 قَدَرٌ من الله- وكأنَّ الله صفَّ أو انحاز مع اليهود ضد المسلمين – وليس الاستبداد؛ استبداد الحاكم العربي وممارسته القهر والظلم وتجويع الناس وكَمّ أفواههم لتنهار الدولة الوطنية والمجتمع الوطني. سعد الله ونوس في "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" سَيَّس المسرح، ودافع فيه عن الإنسان، فهو ليس سلعة، كذلك الوطن. وهو بهذه المسرحية شَغَّل المسرح داخل المسرح بالسياسة التي كانت حكراً على الحكَّام والولاة الذين اغتصبوا السلطة بالسيف، واستطاع من خلال هذه المسرحية السياسية النظيفة كما سائر مسرحياته جَذْبَ الجُمهور إلى المسرح. وهذه لم تكن عادة، إنْ عند السوريين أو العرب، كونه فنّاً دخيلاً على ثقافتنا البدوية الجاهلية، فَخَرَقَ السائد- طبعاً لم يأتِ بمعجزة، ولكنَّه النهضوي، المثقَّف الوطني الديمقراطي وليس الطائفي الذي يؤدِّي دوراً تنويرياً نهضوياً في خطابه المسرحي، ونحن نعيش قحلاً وتصحراً ثقافياً ومعرفياً، وقد سُلِبَتْ حقوقنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والديمقراطية؛ سواء كُنَّا بدواً أو حضراً.
سعد الله ونوس في مسرحياته قَارَبَ شرط المُفكِّر، أوْ كان المُفكِّر في كتاباته، وخارجاً على العرق والطائفة والطبقة
دافع سعد الله ونوس في سورية القديمة وما يزال في مسرحه عن أمَّة عربية مُهدَّدة بكينونتها. ففي "منمنمات تاريخية" تراه يُقشِّر القداسة عن التاريخ/ الماضي، يسلخ جلده الذي تحوَّل إلى وَثَنٍ فلا ننتجُ أو نُبدعُ تاريخاً يليق بإنسانيتنا، فيُحاكم المفكِّر الاجتماعي ابن خلدون لتخاذله أمام تيمورلنك، كما يُحاكم فُقهاء دمشق الذين أفتوا بطاعة المُحتل/ المُستعمر تيمورلنك على إنَّ طاعته من طاعة الرب، وكأنَّ النص الإلهي ملكٌ لهم يلعبون ويتلاعبون به لإرضاء الحاكم حين أمروا بسجن الشيخ (العقلاني) جمال الدين بن الشرائجي بالسجن: "أنا الشيخ جمال الدين بن الشرائجي، آمنتُ أنَّ العقلَ خيرٌ من النقل، وأنَّ الله عادلٌ لا يُقدِّر على عباده الفقرَ أو الذل، فأذاعَ أحدُهم أمري، فاستدعاني قُضاة دمشق الأربعة. وبعد السبِّ والضرب، وإحراق كتبي، رموني في سجن القلعة". سعد الله ونوس في مسرحياته قَارَبَ شرط المُفكِّر، أوْ كان المُفكِّر في كتاباته، وخارجاً على العرق والطائفة والطبقة، فكان ضمير الناس وصوتهم؛ إِنْ في سورية القديمة أَوْ سورية الجديدة.

أخبار ذات صلة.
سورية.. ولادة وطن أم إعلان نهايته؟
العربي الجديد
منذ 6 دقائق