ثلاثة مهرجانات أميركية: الموسيقى بوصفها حدثاً متزامناً
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
في مواعيد متزامنة، وعلى مدار ثلاثة أيام، انطلقت الأسبوع الماضي، ثلاثة مهرجانات موسيقية كبرى على عدة ساحات أميركية، ففي شيكاغو أقيم مهرجان ريوت (Riot Fest) الذي يكرّس سمعته باعتباره أحد أبرز منصات موسيقى الروك، مستقطباً جمهوراً واسعاً يبحث عن طاقة الصخب والتمرد. في الغرب الأميركي، يحتضن مهرجان Lost Lands Festival للموسيقى الإلكترونية في ولاية أوهايو موجة الـDubstep بإيقاعاتها الثقيلة وتجاربها البصرية المبهرة، لتشكل فضاءً مختلفاً قائماً على التقنية والابتكار. في الشرق، يأتي مهرجان FreshGrass الخاص بموسيقى البلوغراس (Bluegrass) ليقدم صورة معاكسة، إذ تسود البساطة الريفية والنغمات الهادئة التي تعكس صلة الإنسان بجذوره والطبيعة من حوله. يكشف اجتماع هذه الفعاليات في التوقيت نفسه عن تنوع المشهد الموسيقي الأميركي، وعن قدرة الأذواق المختلفة على التعايش جنباً إلى جنب. فبينما يعبّر الروك عن طاقة جماهيرية صاخبة، ويعكس الـDubstep نزعة رقمية عصرية، يبقى البلوغراس شاهداً على أصالة التراث الموسيقي. لنصبح أمام مشهد أميركي متنوع، تُعرض فيه الاتجاهات الثلاثة في وقت متزامن، ليقدّم صورة عن كيفية توزّع الذائقة الموسيقية المعاصرة بين الصخب، والابتكار، والحنين إلى الجذور. يجمع هذا التزامن بين أصوات متضاربة، فبينما كان مهرجان ريوت في شيكاغو يطلق العنان للتمرد من خلال فرق الروك والبانك الأسطورية، مقدّماً مساحة للموسيقى البديلة التي تعبر عن جيل كامل، كانت الولايات المتحدة تحتضن تجارب موسيقية أخرى أكثر تخصصاً. كان Lost Lands Festival في أوهايو يغمر الآلاف في عالم من الموسيقى الإلكترونية القوية، محوّلاً ساحات شاسعة إلى عالم من الأضواء والأصوات الضخمة، إذ يسيطر الـDubstep على الأجواء ويخلق تجربة حسية فريدة من نوعها. في الوقت نفسه، كانت موسيقى الجذور الأميركية التقليدية تجد مكانها تحت الشمس في مهرجان FreshGrass في ماساتشوستس. بعيداً عن صخب المهرجانات الكبرى، قدم هذا الحدث فرصة للعودة إلى الأصالة، فاجتمع عشاق موسيقى البلوغراس للاحتفاء بتراث موسيقي عريق، في بيئة هادئة ودافئة تجمع بين الفن والمجتمع. كان المهرجان بمثابة واحة ثقافية، تثبت أن الفن ليس بالضرورة أن يكون صاخباً أو تجارياً حتى يكون مؤثراً. هذه الفعاليات الثلاث، بتباينها الشديد، تقدم صورة واضحة عن مدى ثراء وتنوع المشهد الموسيقي الأميركي. تُعرف الولايات المتحدة بكونها موطناً للفعاليات الموسيقية الضخمة، لكن ما يميزها هو التخصص الدقيق في كل مهرجان، إذ تُقدم تجارب مصممة خصيصاً لكل ذوق. هذا الأسبوع، رسمت ثلاثة مهرجانات في مناطق مختلفة من البلاد لوحة فنية فريدة من نوعها، لكنها جميعاً تعكس الشغف الأميركي بالموسيقى. كان مهرجان Riot Fest بمثابة احتفال حقيقي للروك والبانك، فاجتمع عشاق هذا النوع الموسيقي للاستمتاع بأصوات قوية ومتمردة. لم يكن المهرجان مجرد منصة للعروض الموسيقية، بل كان تجربة ثقافية متكاملة تخلد روح التمرد في موسيقى الروك، وتجمع بين الفرق التاريخية والفرق الناشئة. كانت الأجواء مفعمة بالطاقة، فتبادل الجمهور الأغاني الشهيرة، وشهد عروضاً فنية إضافية تضفي على المهرجان طابعاً كرنفالياً. على بعد مئات الأميال، وفي ولاية أوهايو، كان مشهد الموسيقى مختلفاً؛ فقد غمر مهرجان Lost Lands الآلاف من محبي الموسيقى الإلكترونية في عالم خيالي يعج بالضوء والصوت. هذا المهرجان، الذي يركز على نوع الـDubstep والـBass، حول موقع الحفل إلى غابة افتراضية مليئة بتماثيل الديناصورات العملاقة والمؤثرات البصرية المذهلة. كانت التجربة فريدة من نوعها؛ وكان الجمهور يرقص على إيقاعات الموسيقى الصاخبة، والشاشات العملاقة تعرض رسوماً متحركة آسرة، ما خلق عالماً يغمره الإبداع. في تناقض صارخ مع هذين المهرجانين، احتفل مهرجان FreshGrass في ماساتشوستس بالتراث الموسيقي الأميركي. بعيداً عن الصخب، قدم المهرجان تجربة هادئة وعائلية تركز على موسيقى البلوغراس والجذور. الأجواء في هذا المهرجان كانت أشبه بملتقى فني، فاجتمع الفنانون والجمهور في مكان فريد هو متحف MASS MoCA للفن المعاصر. لم يقتصر الأمر على الحفلات الموسيقية، بل شمل ورشاً وحلقات نقاش، ما سمح للحاضرين بالتعمق في تاريخ الموسيقى التقليدية، مؤكّداً أن الفن يمكن أن يكون تجربة تعليمية وملهمة في آن. في Riot Fest تتجلى استراتيجية موسيقية واضحة تُعلي من شأن البنية الدقيقة للتجربة الصوتية الجماعية. فاختيار الفرق الرئيسية مثل ويزر وغرين دي وبلينك 182 وجاك وايت ليس عشوائياً، إذ تمثل أطرافاً قوية في طيف الروك البديل، تجمع بين الجماهيرية العالية والجرأة النمطية. من الناحية التركيبية، يُلاحظ أن الفقرات التصاعدية في الأداء تُبنى بإحكام: بدءاً من أغان قوية لكن مألوفة إلى تصاعد نحو قفلات (Closings) تختتم السهرات بعبق القوة والإيقاع المُشبع، ما يخلق ذروة درامية يشيع معها هتاف الجمهور وصراخه. كما أن التوازن بين الفرق التي تمثل الجذور Punk/Alternative، مثل Alkaline Trio وThe Pogues، وبين الفرق التي تحمل طابعاً شعبياً خفيفاً مثل Weird Al Yankovic وSparks يوفر فسحة للجمهور المتعدد الأذواق: من الذي يريد الصراخ والإثارة إلى من يفضل النغمات الملتوية، الدعابة، والاسترجاع الموسيقي القديم. الأداء الصوتي والبصري يتضافران: الإضاءة، التأثيرات، وحتى التوقيت الزمني للعروض – كلها أدوات لتحقيق لحظة استثنائية تجعل من Riot Fest أكثر من مجرد تجمع موسيقي، بل حالة من الاندماج الجماهيري بين الفن والمستمع. يعكس كل مهرجان شغفاً عميقاً بجنس موسيقي معين، ما يسمح بتكوين مجتمعات فنية متخصصة ومترابطة. ففي الوقت الذي تتنافس فيه المهرجانات الكبرى على استقطاب أكبر عدد من الحاضرين من خلال برامج موسيقية عامة، اختارت هذه المهرجانات الثلاثة التركيز على جمهور محدد، ما منحها هوية واضحة جذبت عشاق الفن الحقيقيين. في Lost Lands، يكتشف الجمهور نوعاً آخر من القوة الموسيقية المعتمدة على التردد والأدوات الإلكترونية الثقيلة. الأسماء الكبيرة مثل Excision وSVDDEN DEATH وRezz وغيرها تشكل خط الإنتاج الصوتي الذي لا يترك مجالًا للنغم العادي، بل يجعل التجربة كلها جسدية في كثير من الأحيان – الإيقاع يهز الأرض، الترددات تنزلق عبر جسد المستمع، والصوت يصير مزيجاً من التشويش المقصود والحِس بالذاتيّة المكانية. من الناحية التحليلية، التصميم الصوتي في Lost Lands اتكأ على التناقض بين الضجيج المنظم والفراغ الصوتي، بين الهبوط المفاجئ للـBass والمناطق الصامتة التي تُستخدم لتهيئة الذروة. الإنتاج والمسرح والتجهيزات التقنية تشكّل جزءاً لا يتجزأ من الأداء، ليس فقط بوصفه خلفية، بل باعتباره عاملا مؤثرا في الاستجابة النفسية للجمهور. هذا النوع من المهرجانات يُظهر كيف أن القوة الصوتية وحدها لا تكفي، بل كيفية توظيف القاعات المفتوحة، والصوت المحيط، والتدفق اللحظي بين الفنان والجمهور يمكن أن يصنع "طقساً موسيقياً" قوي الأثر، ليصبح أكثر من مجرد حفل. في المقابل، لا تركز مهرجانات الموسيقى الريفية الأميركية، أو ما يعرف بالبلوغراس على الصخب أو الذروة الصوتية، بل على التماسك الفني والنفَس الواحد بين الموسيقيين والجمهور. الآلات التقليدية (ماندولين، بانجو، الغيتار الصوتي، آلة البيس العمودية) تستدعي ملمساً شعبياً حميمياً، يربط المستمع بالأرض، بالهواء الطلق، بالمحيط الطبيعي. الأداء في هذه المهرجانات غالباً ما يكون أكثر مرونة من حيث الزمن، مع فترات امتداد للأداء في مقام أو جملة موسيقية تُطوّل قليلاً لتسمح للجمهور بالانغماس في الصوت. وتكمن قوة البلوغراس في بساطة العناصر وصراحتها: لا تأثيرات مرئية ضخمة، لا إنتاج تقنيا مفرطا، بل تُركّز على الأصوات الحية، والانسجام بين الآلات، والنصوص الغنائية التي تتناول الحياة اليومية، الحزن والفرح والوطن والطبيعة. هذا النوع ينجح في خلق علاقة وثيقة بين الفنان والمستمع، علاقة تُزيح الحجاب بين المسرح والجمهور، فيصبح المستمع جزءًا من المشهد لا متفرِّجًا فقط. تمثل هذه الفعاليات محطات اقتصادية وثقافية مهمة للمدن التي تستضيفها. فمهرجان Riot Fest يجلب الآلاف إلى شيكاغو، ليصبح من أهم أسباب نشاط قطاع السياحة والفنادق والمطاعم. وبالمثل، يُعد Lost Lands وجهة سياحية لآلاف الشباب من مختلف الولايات، ما يساهم في دفع عجلة الاقتصاد المحلي في ولاية أوهايو. وحتى مهرجان FreshGrass، وعلى الرغم من طابعه الهادئ، فإنه يجذب جمهوراً من محبي الفن والثقافة إلى ولاية ماساتشوستس، ليصبح محفزاً للسياحة الثقافية. يمكن القول إن هذه المهرجانات تمثّل مرآة تعكس تنوع الثقافة الأميركية نفسها. فهي تجمع بين حب التمرد في موسيقى الروك، وشغف التكنولوجيا في الموسيقى الإلكترونية، واعتزاز التراث في موسيقى البلوغراس. كل مهرجان يروي قصة مختلفة، ولكنه في جوهره يحتفي بالقوة التي يمتلكها الفن لجمع الناس، مهما كانت اهتماماتهم متباينة، في تجربة مشتركة فريدة من نوعها. لا يقتصر التقاء هذه المهرجانات الثلاثة في الأيام ذاتها على كونه حدثاً موسيقياً متزامناً، بل هو مؤشر على آلية عمل الثقافة الأميركية الحديثة تجاه التنوع الموسيقي، ففي شيكاغو يتجسد صوت التمرد الجمعي عبر موسيقى الروك والبانك، إذ تُعاد صياغة فكرة المقاومة ضد السائد عبر إيقاعات صاخبة واحتفالية؛ وفي أوهايو يتحول الفضاء إلى ساحة للتقنية والصوت الرقمي، فيكتسب الـDubstep قوة تمثيلية لزمن تُسيطر فيه التكنولوجيا على تفاصيل الحياة اليومية؛ وفي ماساتشوستس، يظهر البلوغراس بوصفه ذاكرة موسيقية تُصر على البقاء، تجسد الحنين والارتباط بالجذور والبيئة الطبيعية.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية