
عربي
يعود اسم السياسي ورئيس الحكومة البريطاني السابق توني بلير المُتهم بارتكاب جرائم حرب إلى الواجهة مجددًا، في أعقاب طرح اسمه من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليدير قطاع غزة، بعد حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية التي خلفت أكثر من 65 ألف شهيد ومئات آلاف المصابين والنازحين، وتدمير كامل لمقومات الحياة في القطاع الفلسطيني المنكوب.
ويبدو أن ما أطلق عليه مرارًا، خلال العامين الماضيين، تسمية "اليوم التالي للحرب"، سيكون من نصيب "معهد توني بلير للتغيير العالمي" بحسب تقارير عديدة، وهو المعهد الذي أسسه بلير بعد استقالته من رئاسة الوزراء البريطانية التي قضى فيها عشر سنوات.
برز بلير زعيمًا لحزب العمال البريطاني منذ منتصف التسعينيات، واستطاع أن يُحدث نقلة نوعية في صورة الحزب عبر مشروعه المعروف بـ"الطريق الثالث"، الذي جمع بين سياسات السوق الحرة والمبادئ الاجتماعية للحزب. بفضل هذا التوجه، قاد حزب العمال إلى فوز تاريخي في انتخابات عام 1997، منهيًا 18 عامًا من حكم المحافظين، ليصبح أصغر رئيس وزراء بريطاني منذ أوائل القرن التاسع عشر.
بدأت سنوات حكمه رئيسًا للوزراء عام 1997، واعتبر قائدًا سياسيًا واعدًا، أشرف على سلسلة من الإصلاحات في مجالات الصحة والتعليم والخدمات العامة، وتعزيز صلاحيات الحكم المحلي، كما لعب دورًا محوريًا في اتفاق "الجمعة العظيمة" عام 1998 الذي أنهى إلى حد كبير عقوداً من الصراع في أيرلندا الشمالية.
أكاذيب بلير بشأن غزو العراق
إلا أن هذا الوجه المُشرق الذي مثّله بلير انتهى بعد دخول المملكة المتحدة إلى جانب الولايات المتحدة في حرب احتلال العراق عام 2003 تحت مسميات "نزع أسلحة الدمار الشامل" التي اتضح لاحقًا، بحسب تقارير للأمم المتحدة، أنها كاذبة وأن العراق لا يمتلك تلك الأسلحة، وهو ما جعل توني بلير يحصل على لقب "مجرم حرب" في شوارع لندن والمدن والبلدات البريطانية، خلال التظاهرات المليونية التاريخية التي خرج فيها الشعب البريطاني رفضًا لغزو العراق إلى جانب تظاهرات أخرى حول العالم.
خلصت لجان التحقيق البريطانية لاحقًا، وأبرزها تقرير "تشيلكوت" الصادر عام 2016، إلى أن الأسس التي بنيت عليها الحرب لم تكن مبررة، وأن قرار المشاركة كان متسرعًا، وأن الحكومة البريطانية لم تُحسن التخطيط لمرحلة ما بعد الغزو. نتيجة لذلك، أصبح بلير شخصية مثيرة للجدل في الداخل والخارج، واتُهم من قبل معارضيه بأنه جرّ بريطانيا إلى حرب كارثية أدت إلى فقدان مئات الجنود البريطانيين، ومقتل مئات الآلاف من العراقيين، وزعزعة استقرار المنطقة بأكملها.
وفي النقاشات السياسية البريطانية حتى اليوم، يظل اسم توني بلير مقترنًا بحرب العراق باعتبارها خطًأ استراتيجيًا وأخلاقيًا، وبحسب وثائق كشف عنها الإعلام البريطاني قبل شهرين، رضخت حكومة بلير للضغوط الأميركيّة بشن الحرب على العراق من دون صدور قرار ثانٍ من مجلس الأمن بعد المعارضة الفرنسية للحرب، واعتمدوا على القرار رقم 1441 الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، والذي منح العراق "فرصة أخيرة للامتثال لالتزاماته بنزع السلاح"، وحذّر من أن البلاد "ستواجه عواقب وخيمة نتيجة استمرار انتهاكها التزاماتها" رغم أن القرار لم يذكر الحرب مطلقًا، لكنها حصلت وخلّفت مئات آلاف القتلى والمصابين، وأدت إلى تدمير البنية التحتية الأساسية للعراق، وتشريد ملايين العراقيين الذين أصبحوا لاجئين ونازحين، ما أثر بشكل دائم على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد ونشر حالة من الفوضى والعنف الطائفي لسنوات ما زالت تُلقي ظلالها حتى اليوم.
اتهامات بارتكاب جرائم حرب
أدت هذه الحرب إلى انخفاض حاد في شعبية توني بلير وتصنيفه التاريخي، واتّهم من جهات عديدة بأنه كان متورطًا في أسوأ جريمة في القرن الحادي والعشرين، إذ طالب ائتلاف "أوقفوا الحرب"، وهو أكبر حركة شعبية مناهضة للحرب في المملكة المتحدة، بمحاكمة بلير باعتباره مجرمَ حرب، وطالبت عرائض وقّع عليها ملايين البريطانيين بسحب لقب الفروسية منه كونه "مسؤولًا شخصيًا" عن موت عدد لا يحصى من الأبرياء وأنه تجب مساءلته عن "جرائم حرب".
واعتبر المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان أن "غزو العراق جريمة"، وركز جهوده القانونية على محاسبة المسؤولين عن جرائم التعذيب وسوء معاملة المعتقلين العراقيين من قبل القوات البريطانية، مشيرة إلى أن هذا قد يثبت في نهاية المطاف مسؤولية بلير الجنائية عن جرائم التعذيب. كما قدّمت نقابة المحامين اليونانية شكوى رسمية إلى المحكمة الجنائية الدولية عام 2003، تتهم فيها بلير ووزراءه بارتكاب إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في العراق، مستندة إلى انتهاك المواثيق الدولية.
وتواصلَ اتهام بلير في الداخل البريطاني بأنه مجرم حرب، إذ طالب زعيم حزب العمال السابق جيريمي كوربين، علنًا وقبل نشر تقرير تشيلكوت وخلاله، بأنه يجب على بلير أن يواجه تحقيقًا في جرائم حرب. ووصف حزب الخضر الاسكتلندي بلير في بيانات رسمية صريحة بأنه "مجرم حرب" وطالب بمحاكمته في لاهاي. وكان لنواب ومشرعين بريطانيين، خاصة من الحزب القومي الاسكتلندي، مطالبات باستخدام قانون قديم لمحاكمة بلير (المولود في إدنبره، اسكتلندا، عام 1953) أو عزله سياسيًا لمنعه من تولي أي منصب عام مرة أخرى.
عودة توني بلير إلى الواجهة من بوابة غزة
بعد استقالته عام 2007 وتسليم السلطة لغوردون براون، أسس بلير "معهد توني بلير للتغيير العالمي" الذي يصف نفسه بأنه يعمل على قضايا الحوكمة والتنمية في عدد من الدول، ويُقدّم دورًا استشاريًا لحكومات مختلفة، فيما استغل فترة حكمه السابقة رئيسًا للوزراء ليعزز شبكة علاقات معقدة مع شركات كبرى ودول في الشرق الأوسط وأفريقيا، وهو ما أثار انتقادات إضافية بسبب تضارب المصالح وتلقيه أموالًا مقابل خدمات استشارية. وبحسب عدة تقارير في وسائل إعلام عالمية نُشرت أخيرًا، فإن المعهد لعب دورًا استشاريًا خلف الكواليس لدى الحكومة البريطانية وبعض الحلفاء الغربيين بشأن إدارة قطاع غزة بعد الحرب، بما يشمل قضايا إعادة الإعمار والترتيبات الأمنية.
يُطرح اسم بلير مجددًا للانخراط في الشأن الفلسطيني، بعد أن شغل منصب المبعوث الخاص للجنة الرباعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط بين 2007 و2015، التي لم تحقق مهامها في إرساء السلام مع استمرار سياسة الاحتلال والاستيطان الإسرائيلية المخالفة للقانون الدولي. واعتبر دور بلير محدودًا وكان أقرب إلى المواقف الإسرائيلية والغربية أكثر من تعبيره عن توازن فعلي بين الطرفين، ما جعله شخصية غير محبذة لدى قطاعات واسعة من الفلسطينيين والعرب.
اتهمه القيادي الفلسطيني نبيل شعث في نزاهته، وقال إنه "لم يحقق سوى القليل جداً بسبب جهوده الفجة لإرضاء الإسرائيليين". كما وجّه رئيس مجلس التفاهم العربي البريطاني كريس دويل انتقادات حادة له، مشيرًا إلى أنه "لم يجرؤ أبدًا على التحدث علنًا ضد الاحتلال" وأنه كان "مرتاحًا جدًا لوضع راهن لا يمكن تحمله". وأشارت مذكرات مسرّبة (وثائق فلسطين) إلى أن لغته كانت "أبوية" و"تستخدم بشكل متكرر مصطلحات ومفاهيم سلطات الاحتلال الإسرائيلية"، بل ووصفت بعض مقترحاته بأنها "تدعو إلى نهج شبيه بالفصل العنصري (Apartheid-like approach)" في التعامل مع الضفة الغربية المحتلة.
واجه توني بلير اتهامات متكررة باستغلال منصبه الرسمي مبعوثًا للرباعية لفتح الأبواب أمام أعماله الاستشارية الخاصة والمربحة في الشرق الأوسط، ما خلق تضاربًا صارخًا في المصالح، وأن هذه الأدوار، وإن لم تكن رسمية بالكامل، جعلته مجددًا موضع جدل في الإعلام البريطاني والعالمي. فمنتقدوه يرون أنه يكرر سياسات الماضي عبر تبني حلول أمنية واقتصادية على حساب معالجة جذور القضية الفلسطينية، بينما يعتبره أنصاره سياسيًا ذا خبرة يمكن أن يسهم في بناء أطر جديدة لإدارة الأزمات المعقدة، وهو الأمر الذي أثبتت تجربته الفشل في أكثر من مرة، حتى اعترف هو بنفسه في مقابلة صحافية عام 2017 مع صحيفة "ذا غارديان" بأن "المجتمع الدولي كان مخطئًا في الاستجابة لضغط إسرائيلي لفرض مقاطعة فورية على حماس بعدما فازت في الانتخابات".
دُعي بلير إلى البيت الأبيض لحضور اجتماع بشأن غزة مع دونالد ترامب في 27 أغسطس/آب الفائت. ويُقال إنه يحظى بدعم عدد من المقربين من الرئيس الأميركي، بمن فيهم صهره جاريد كوشنر ومبعوثه الخاص الحالي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف. وتقترح خطة بلير لإدارة قطاع غزة بعد الحرب، بحسب وثائق نُشرت في الأيام الأخيرة، أن يكون هيكلًا هرميًا متعدد الطبقات، يكون فيه كبار الدبلوماسيين الدوليين ورجال الأعمال في القمة ومجلس إدارة فيه تمثيل من دول إسلامية لتكون لديه شرعية، بينما يكون الفلسطينيون الذين يديرون الأمور على الأرض في أسفل الهرم، من دون وجود لجدول زمني واضح المعالم لاستلام الفلسطينيين القطاع وما هي علاقة الاحتلال الإسرائيلي بكل المرحلة المقبلة.
