الغلاء يفرض "اقتصاد المناسبات" في سورية
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
لم يعد الفرح في سورية كما كان، ولم تعد الأحزان تقام كما اعتادت العائلات لعقود. فموجات الغلاء التي اجتاحت البلاد غيرت ملامح المناسبات الاجتماعية، من حفلات الزفاف التي تقلصت إلى قاعات صغيرة وديكور متواضع، إلى مراسم العزاء التي انكمشت ليوم واحد فقط، وسط ضغط معيشي يفرض على السوريين إعادة تعريف طقوسهم بين الفرح والحزن. في أحد أحياء دمشق، يقف فراس القباقيبي أمام قاعة أفراح صغيرة استأجرها لإقامة حفل زفاف شقيقته. لم تكن هذه الخطة الأولى للعائلة، فالحلم كان بحفل كبير في صالة فاخرة، كما جرت العادة في السابق، لكن الغلاء غير كل شيء. يروي الأربعيني لـ"العربي الجديد" أن أجرة القاعة وحدها اليوم تعادل رواتب سنة كاملة، في حين كان نفس المبلغ يغطيه راتب شهر واحد فقط قبل سنوات قليلة. وبسبب ذلك، اضطروا إلى تقليص قائمة المدعوين والتخلي عن معظم الطقوس، حتى الملابس والديكور لم تعد ضمن الميزانية. هبة الطويل، عروس تزوجت مؤخراً في ريف دمشق، تقول لـ"العربي الجديد" إن حفلها اختصر ليوم واحد فقط، بعد أن اضطرت للاستغناء عن الفرق الموسيقية والاكتفاء بموسيقى تسجيلية. وتؤكد أن الأهم هو الزواج نفسه، لا المظاهر التي لم تعد تعني الكثير في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية. وقبل الحرب، كانت الأعراس في سورية مناسبات ضخمة تبدأ بسهرة الحناء وموكب السيارات المزينة، وحفل فاخر مع مطربين وضيافة تكلف آلاف الليرات للشخص الواحد. اليوم، تحولت هذه الطقوس إلى قاعات صغيرة أو حدائق المنازل، بينما تقتصر القوائم على الحد الأدنى من الطعام، وأصبح التصوير الاحترافي رفاهية نادرة. تقول سعاد جبري، صاحبة صالة أفراح بدمشق، إن صالاتها كانت ممتلئة طوال الصيف قبل خمس سنوات، أما اليوم فأكثرهم يطلبون قاعات صغيرة أو حتى يقيمون حفلات في المنازل. وتضيف: "الزينة تقتصر على أبسط الأشياء، وأحياناً يضطر الزبائن لاستئجار الكراسي والطاولات من أماكن أخرى لتقليل التكاليف". أما يارا طرابيشي، منظمة حفلات، فتؤكد أن الأزمة الاقتصادية قلّصت عملها، إذ لم تعد العائلات تطلب تصويراً احترافياً أو موسيقى حية، بل تبحث عن حلول اقتصادية أكثر رغم أثرها على شعورهم بالفرح. وتشير إلى أن ارتفاع الأسعار خلال السنوات الأخيرة جعلها أحياناً تعمل بأرباح قليلة أو تتحمل خسائر للحفاظ على عملائها. الغلاء لم يغير طقوس الفرح فقط، بل امتد أيضا إلى مراسم الحزن. أبو كمال، الذي فقد والده مؤخراً، يقول إن العزاء الذي كان يستمر أياماً مع طعام وشراب، اختصر ليوم واحد فقط، وبضيافة محدودة لا تتجاوز القهوة والبسكويت. وفي حلب، تضطر أسر إلى تقسيم الضيوف على فترات لتخفيف التكاليف. أم سامر، التي نظمت عزاء زوجها، تقول إن الهدف اليوم هو "التعبير عن الوفاء للميت بطريقة ممكنة مالياً، بعيداً عن البهرجة المكلفة". الدكتورة أمينة الحج، أستاذة علم الاجتماع بجامعة دمشق، ترى أن الغلاء أجبر الناس على تبسيط الطقوس، فالأعراس صارت أكثر بساطة والعزاء أكثر خصوصية. لكنها تحذر من أن الاقتصاد الضاغط قد يخلق فجوة بين العائلات المقتدرة وتلك غير القادرة، ما يضعف التضامن الاجتماعي. ارتفعت أجور قاعات الأفراح الكبيرة من 500 - 700 ألف ليرة قبل سنوات إلى 10- 15 مليون ليرة اليوم (1000- 1500 دولار). أما وجبات الأعراس التي كانت تكلف 50 ألف ليرة للشخص، فتجاوزت 250 ألف ليرة (25 دولارا)، فيما ارتفعت تكاليف العزاء من 150 ألف ليرة إلى أكثر من مليون ليرة في اليوم الواحد. في ظل استمرار الغلاء وتراجع الدخل، يبدو أن "اقتصاد المناسبات" سيفرض نفسه طويلاً. بعض الأسر بدأت تعتمد الدعوات الإلكترونية أو الحفلات العائلية الصغيرة، لكن الخشية تبقى أن تفقد المناسبات دورها في جمع العائلات والمجتمع، لتتحول إلى عبء اقتصادي أكثر من كونها طقساً اجتماعياً أو روحياً.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية