جماليات عدّة وسيناريو محبوك في "بين وبين" الجزائري
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
  اختار المخرج الجزائري المغترب محمد لخصر تاتي، في "بين وبين"، موضوعاً محورياً لم تتطرّق إليه الأفلام الجزائرية كثيراً: التهريب، تحديداً تهريب الوقود، وهذا نشاط أساسي لفئات وعائلات تقطن على الحدود، وذلك بمعالجة نشاطٍ ضيّق، مقارنة بأصناف التهريب المتعدّدة، لإعطائه ما يستحق من أضواء، وفي الوقت نفسه للاقتراب من الهامش لسماع أصوات عدّة تعاني بصمتٍ، ويُنظر إليها دائماً على أنّها تمارس "عمليات إجرامية". لكن تاتي لم يعاملها بهذه النظرة الموروثة، ولم يحاكم ممارسيها على تلك الأفعال، ولم يدنهم أو يتعرّض لهم أخلاقياً، إذ رأى أنّ هذا ليس دوره، فاكتفى بتشكيل تلك العوالم، ونقلها إلى المتلقي بكلّ حيادية. لذا، اختار عنوان "بين وبين" (2024، 100 د.)، وهذه تسمية مُشبعة بمعانٍ عدّة، وتطرح أسئلة كثيرة، إذ تُفهم العبارة بأنّها فضاء مكاني، أو نوع من تردّد وعدم يقينية من الأشياء والصفات والموجودات، فجاءت مُحمّلةً بهواجس وأسئلة ذات منطلقات فلسفية، تصبّ بمجملها في تفاصيل الحياة ومآلاتها. بعد مهرجانات وفعاليات، عُرض الفيلم لأول مرة في الجزائر، في افتتاح الدورة الـ20 (6 ـ11 سبتمبر/أيلول 2025) لـ"لقاءات بجاية السينمائية": الشاب سعد (سليم كشيوش) مخرج فاشل ورومانسي، وجد نفسه في منطقة جغرافية مليئة بالأحداث، مع صديقه فتحي (سليمان دازي)، أرمل يتحمّل مسؤولية أسرته كاملة، ويمتهن التهريب نشاطاً أساسياً يُعيل به عائلته المكوّنة من ابنه ووالديه وأخته الصغرى (هناء منصور)، وأخيه الأكبر أحمد (علي جبارة)، غريب الأطوار، ومقطوع اليد. تنشط الأسرة في تهريب الوقود من الجزائر إلى تونس، في ظروف خطرة ومُعقّدة. هذه معطيات مُستجدّة في حياة سعد، إذ وجد فيها عالماً غريباً عليه كلّياً، تتقاطع فيه الآمال مع عنف حاصل يومياً، للسيطرة والاستمرار في هذا النشاط المنخرط فيه. أكثر من هذا، أصبح فاعلاً أساسياً. ومع تصاعد المخاطر، يجد الصديقان نفسيهما مُضطرَّين إلى اتّخاذ خطوات أخطر، من أجل البقاء، في بقعة جغرافية تنبض بمخاطر كثيرة. تعدّدت المستويات الجمالية في الفيلم، ومنها السيناريو (تاتي وجان ـ بيار موريلون)، المهتمّ بالتفاصيل الصغيرة للعائلات التي تُقيم على الحدود، وتحترف التهريب، خصوصاً عبر تجسيد بعض تلك العوالم، كطريقة تعبئة الوقود من المحطة، وتخزينه في الأقبية، وإعادة تعبئته في براميل بلاستيكية، وشراء الطريق (رشوة قادة دوريات) لإيصال الحمولة إلى وجهتها. هناك أيضاً اختيار الجغرافيا القاسية والصخرية والباهتة، لجعلها فضاء مكانياً للأحداث، وهذا انعكاس واضح للشخصيات. أي إنّ هناك تمازجاً بين سلوك الفرد والبيئة الساكن فيها. الحوارات والنقاشات اليومية في المقاهي تدور حول التهريب، فاكتسبت زخماً إضافياً. كذلك هناك قصة هامشية، أعطت بُعداً عاطفياً للفيلم: محاولة إشعال علاقة ودّ بين سعد وابنة صديقه، الشابّة المهتمّة بأعشاب المنطقة ونباتاتها، وتعرف كل سرّ علاجيّ لها، وأصبحت تُعدّ فيديوهات توعوية، اتّباعاً لنصيحة سعد، الذي يحاول جمع تصوّر شامل عن فيلم مرتقب له، يربط بوضوح بين الحداثة بكونها إطاراً زمنياً، والمرجعيات التي تصنع السياقات، انطلاقاً من المهنة والمنفعة وغريزة البقاء. لكن هذا لا يعني أنّ تاتي مهتمّ بكل التفاصيل الصغيرة، التي تصنع الجمالية الكلّية لفيلمه، لأنّ هناك هنات وعثرات، رغم صغرها تؤثّر في التلقّي، وتخلق نوعاً من عدم تصديق القصة، كطريقة ملء البراميل بالوقود، لأنّ المُشاهد يريد أن يرى كيف ينسكب على حافة البرميل، ليعطيه مُنطلقاً واقعياً، أو يشاهد مشقّة حمل البرميل ونقله. لكنه، عندما يرى أنّ هناك تساهلاً، يجعله يُشكّك في مصداقيتها، كخلو البرميل من البنزين. أي إنّ الخرطوم كان فيه لإيهام المُشاهد فقط، لا لإقناعه. وقِسْ على ذلك. لكن هذه المعطيات لا تؤثّر كلّياً في "بين وبين"، ولا تجرح مصداقيته. مقابل ذلك، يبقى الفيلم معقولاً، خصوصاً أنّ شجاعة تاتي واضحة جداً، بذهابه إلى مساحة تكاد تكون غائبة مرئياً، مُقدّماً تصوّراً شاملاً لها، وواضعاً إياها أمام الجمهور الذي يبحث ويتمنّى الاقتراب من هذه العالم، ومعرفته بشكل أفضل، والوقوف على بعض ما يجري فيه. هذا المعطى أوجده تاتي. فنياً، ينتمي "بين وبين" إلى سينما الطريق. هذا توجّه معروف، يتجلّى عادة في أفلامٍ تنطلق من الحدود الجغرافية والمعنوية، والفواصل والفضاءات والكيانات. إنّه صرخة سينمائية واحتجاجية على وضعٍ، كما قدّمته هوليوود في أفلامٍ كثيرة، خصوصاً تلك التي تجري أحداثها على الحدود المكسيكية الأميركية. عربياً، هناك تجارب عدّة، بخاصة تلك التي تناولت الحدود الجزائرية المغربية، لعلّ آخرها "وحده الحب"، للمغربي كمال كمال.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية