
عربي
فيلمٌ يُخرجه من بلده، وثانٍ يفتح له أبواب برلين، والثالث يجعله يسير على السجادة الحمراء لمهرجان فينيسيا، قبل عودته إلى غرفة ضيقة، يتشاركها مع آخرين بمخيم لاجئين في ألمانيا، فهو طالب لجوء سياسي. في أعماله الأولى، امتلك عمار البيك أسلوباً شاعرياً، يحكي قصصاً بصرية قصيرة بكلمات شحيحة: "حصاد الضوء" (1996)، "كانوا هنا" (2000). لاحقاً، أُغرمَ بشخصيات بارزة في تاريخ الفن السابع، فاستند إلى مرجعيات سينمائية بين كلماته وفي أعماله، كوثائقيّه الطويل "أسبرين ورصاصة" (2011). صحيح أنّه أمر كاشف لثقافة واسعة، لكنّه ينطوي على مخاطر.
أنجز أفلاماً قصيرة، بعضها عن الثورة السورية: "حاضنة الشمس" (2011) و"سوريا الحلوة" (2015). أحدثها الوثائقيّ الطويل "النقب"، المعروض لأول مرة عالمياً في مسابقة "بروكسيما"، في الدورة الـ59 (4 ـ 12 يوليو/تموز 2025) لمهرجان كارلوفي فاري السينمائي، فكان هذا الحوار.
(*) هل لا تزال تعيش في برلين، حيث صوّرت فيلمك بمخيّم اللاجئين؟
أعيش الآن بمارسيليا. كنت ببرلين أثناء فترة اللجوء لسبع سنين، ثم انتقلت إلى فرنسا، وتقدّمت بطلب لجوء آخر. أنا لاجئ سوري مرتين، قبل أنْ أكون صانع أفلام. أثناء وجودي ببرلين، كان يُمكن نقل ملف اللجوء إلى فرنسا ويُقبَل، لأنّ زوجتي سورية فرنسية. لكني فضّلت السير في هذه الإجراءات. أحببت أنْ أكون لاجئاً مرة أخرى.
(*) لماذا؟
لأنّ من أحلى الأشياء التي يُمكن أنْ يمرّ بها الإنسان، في مرحلة اللجوء، تلك التي يُواجهها، ليس جغرافياً فقط بل اللجوء الداخلي. التجربة تُولّد شعوراً مختلفاً يصعب كثيراً معرفته ومعايشته، ويصعب تحديد متى يتوقّف من دون اختباره. المشاعر جزءٌ كبير من الحياة والسينما.
(*) كأنك تشحذ نفسك بمشاعر وخبرات جديدة لصنع فيلم آخر. أو ربما كنت تفكّر بتوظيفها في "النقب".
الـ CV اليوم أصبح أهم شيء في الحياة. كل فرد أو مؤسّسة يسأل عنه. اليوم، حين أكتبه سأذكر أنّي لاجئ مرتين. لا أكتبه ليتقبّلني الناس، بل لأتصالح مع حالي، وأتقبّل نفسي. تماماً كـ"الغِيَّة". أنا مُربّي حمام، وألعب كرة القدم، وأصنع سينما لأعيش بالمعنى الروحي. في السيرة الذاتية، لو كتبت أني لاجئ، سيكون هذا حلواً. لكنْ، لو كتبت لاجئاً مرتين، سيكون أقوى، كرجل يقول إنّه يحكي العربية والفرنسية والإنكليزية.
(*) بمشاهدتي أفلامك، أدركت أنّ لديك جانباً فلسفياً، بقدر ما. مع ذلك، أعتقد أنّ الأمر مختلف، لأن تعلّم اللغات والتحدّث بها يُعدّ من المهارات. أمّا أنْ تصف نفسك بأنّك لاجئ مرتين، فهذا يبدو لي كأنه رغبة في إضفاء قدر من المعاناة الإنسانية على شخصيتك.
لا أبداً. من خبرتي كوني لاجئاً مرتين، أقول إننا نعتقد أولاً أن اللجوء معاناة. فعلاً إنه معاناة إنسانية قاسية جداً، أدركتها عند تقدّمي، عام 2014، بطلب اللجوء السياسي بمطار برلين تيجيل الدولي، الذي أُغلق، وكذلك مخيم اللاجئين الذي أغلق أيضاً، وأصبح مقبرة سيارات. طلب اللجوء السياسي صعبٌ كثيراً، وقاسٍ نفسياً.
أيضاً، لا أنسى التحقيق البوليسي بالداخل، ثلاث أربع ساعات. هناك لحظة شديدة التأثير، عندما يقدّمون لنا ورقة للتوقيع عليها، مفادها أنه لم يعد لنا حق الخروج. في هذه اللحظة، كنت أعتقد أني قوي، لكني أُجهشت بالبكاء. شعرت أن النظام العالمي يمنعني من العودة إلى سورية. هذا شعور حقيقي، لأني منذ 18 سبتمبر/أيلول 2014 إلى اليوم، أعيش خارج سورية.
(*) والعودة؟
العودة كانت تعني القتل، لأن بشار الأسد مجرم، ولا يرحم. كان يقتل مباشرة. بداية القسوة عند الوصول إلى الغابة مع حقيبة كبيرة، ويكون القرار: أريد البقاء حيّاً. ثم أعيش في غرفة مساحتها 14 متراً مع آخرين، من دون معرفة من شريكي في هذا المكان. هناك صراصير على مائدة الطعام. التدفئة معدومة، وخلفي كل الماضي. بعد ساعة، يأتي شريكي، الذي يُصبح شخصية أساسية في "النقب". لاجئ من غزة. رحلته أصعب كثيراً من رحلتي، لأنه كان ينام في شوارع بلغاريا ورومانيا، حتى وصوله إلى ألمانيا. في تلك اللحظات، هناك عشرات الأفكار برأسي، لكني لم أتّخذ أي قرار، فالأهم: كيف أنجو.
بعد مرور كل هذا الوقت، اكتشفت أن هذه القسوة كانت القاموس والحقيبة التي أُخرج منها قلماً، أوظّفه لصنع فيلم أو لكتابة نص. هذه التجربة مادة خام لتحقيق الفيلم.
(*) هذا يجعلني أعود إلى مشهد قبيل نهاية الفيلم: زيارتك مخيم اللاجئين الذي هُدِم في برلين، فتستعيد تفاصيل المكان والأشياء التي تُذكّرك بسورية، ثم تمسك ببقايا الكرسي المحطّم الصدئ، وتقول: "أحب هذا المكان، وأشتاق إليه". شعوري أن في الأمر تناقضاً، يجعلني أتساءل: هل الإنسان يحب المعاناة؟
عندما أعود مجدّداً إلى المخيم، أجده تراباً، لكن الذكريات تظلّ تحوم حوله، والأصوات والروائح. اكتشفت أن هذا المكان بيت ثان لي، وحاضن. كان دمشق الثانية. كنت أحبه، وأحب هذه الأرض والغابة وبرلين. طبعاً أحب دمشق، لكنها مليئة بالمعاناة.
(*) لكنها معاناة مختلفة. دمشق مدينة لا بُدّ للإنسان أن يُحبّها. دمشق لم تطردك، بل النظام. النظام مصدر المعاناة، لكن دمشق، بكل شوارعها وأهلها ورائحة الياسمين والأهل والأصحاب (يقاطعني)
وهذا المخيم كنت أُحبه. كان فيه الحدّ الأدنى من احتياجاتي. أقلّه كان عندي غرفة وكرسي وطاولة. الهواء البارد في الشتاء. هناك أشخاص يعرفون كيف يُحبون الذين طُردوا من بلادهم، ولا يزالون مُعلّقين بها نفسياً، من غزة والعراق ولبنان وسورية وفيتنام وصربيا والبوسنة. أصبحت العلاقة بين هؤلاء عالمي. الحب مجبول بالمعاناة. لا يوجد حب من دون معاناة.
(*) حدّثني عن ردّ فعل الجمهور التشيكي تجاه الفيلم، وعن شعورك في كارلوفي فاري.
في القاعة 70 شخصاً. اخترت الجلوس في مقعد أخير، لأرى الناس مع الفيلم، وأنتظر مغادرتهم. لأني أراهن دائماً على الشخص الذي يبقى إلى النهاية. لا يضايقني أنْ يغادر الجمهور القاعة أثناء العرض. 15 شخصاً شاهدوا الفيلم كاملاً، ومدّته أربع ساعات ونصف الساعة، ونقاش بعد العرض. هذا درس أبهرني. لكن، في الوقت نفسه، أنا أيضاً منتج الفيلم، ولا أخضع لقوانين الإنتاج السينمائي المتعارف عليها. بعد المشاهدة، خطر لي أني سأشتغل عليه. المونتاج لا ينتهي. هذا لم يكن فيلماً وفقط، بل علاج، لأن "النقب" عمره 11 عاماً. شعرت أن هناك مناطق ليست متّسقة مع الإيقاع الذي أريد، خاصة أنه اختير للعرض في اليابان.
برأيي، هناك نوع من الأفلام لا نسخة نهائية لها، بل يمكن الاشتغال عليها كثيراً. أنا لا أزال أعمل على فيلمي.
(*) متى آخر مرة عملت فيها على المونتاج؟ قبل تسليمه مباشرة إلى إدارة مهرجان كارلوفي فاري؟
سلّمتهم النسخة، ثم أضفت سبع دقائق، مهمّة بتقديري. لكن الإدارة دقيقة، إذْ أخبرني كارل أوخ (المدير الفني والمسؤول عن البرمجة ـ المحررة) أنهم شاهدوا ما أضفته، أي أنهم شاهدوا النسخة مجدّداً.
(*) النص الذي كتبه أوخ في الكتالوغ يؤكّد أنه أحبّه كثيراً.
ما كتبه متّسق مع أفعاله، فهذا المهرجان أعتبره شريكاً في إنتاج الفيلم، إذْ كان أحد شروط العرض أنْ تكون النسخة "دي. سي. بي.". مدّة الفيلم أربع ساعات، ما يعني آلاف الدولارات، لم يكن معي شيء منها. البحث عمن يقوم بالمهمّة ليس سهلاً، ويحتاج إلى وقت، لكن أوخ قال إنّهم هم سينقلونه إلى "دي. بي. سي.". لاحقاً، عرفت أنه الفيلم الوحيد الذي تحمّل المهرجان تكلفة النقل.
(*) بدأت مشوارك بـ"حصاد الضوء"، عام 1996. أهناك أفلام قبله؟
هناك فوتوغرافيا. لكن، شعرت بداخلي أني أريد صنع فيلم، فكان "حصاد الضوء".
(*) شاهدت "كانوا هنا". هناك مشترك بين الفيلمين المنتميين إلى السينما الكلاسيكية الشاعرية. تهتم بجماليات التكوين والإضاءة ووضوح القصة، باختزال الكلمات. ثم بدءاً من "أذني تستطيع أن ترى"، بدأت التجريب. تزايد التجريب لاحقاً. ما الذي جعلك تقوم بهذه النقلة الأسلوبية في نوع السينما التي تحقّقها؟
أصدقائي المصريون محظوظون لأن لديهم المعهد العالي للسينما، وكبار يتعلّمون على أيديهم. في سورية، لا يُوجد معهد للسينما. أنا فقير، لم أستطع السفر إلى أوروبا لدراستها، فدرستها بنفسي. هذه النقلة ليست في النوع السينمائي. إنه الأسلوب نفسه، لأني كنت أتعلّم. كنت أعتقد، حتى 18 سبتمبر 2014، أني مخرج سينمائي، لكني أبداً لم أكن. بعد عرض "النقب" فقط، أدركت أني أصبحت صانع أفلام.
(*) ما السبب: المشاهدة أم ردّ فعل الجمهور؟
بين 1995 و2025، كنت أدرس سينما. هذا يكفي. بالمناسبة، في سنواتي البرلينية السبع، لم أعمل على "النقب" فقط، إذْ صوّرت أفلاماً كثيرة "وان شوت (One Shot)". كنت أجرّب. أضع نفسي أمام التحدّي: إذا لم يكن المونتاج متاحاً، كيف أصوّر؟ كنت أصوّر فيلماً، بين 150 و180 دقيقة. أصبح لديّ 99 فيلماً تحتاج كلّها إلى عنوان ونهاية. الآن، يمكنني العودة إليها، والعمل عليها مجدّداً. لكن الأهم أني تخرّجت من معهد السينما اليوم، وعمري 52 عاماً. هناك أفلام كثيرة تنتظرني. الآن أريد كتابة أول سيناريو يخصّني، فهل سيكون 15 دقيقة، أم 90؟ لا أعرف. لكني متأكّد أني صرت قادراً على كتابة فيلم وإخراجه.
