
عربي
في رحلته الاستكشافية إلى مراكز الاستشفاء الفرنسية والسويسرية بداية الثلاثينيات، يصف الطبيب عبد الغني الشهبندر طرائق عمل المؤسسات والأطباء، ويشرح أساليب تعاطيهم مع المرضى، بينما يتحدث محمد يحيى الهاشمي، في رحلته، عن زيارته إلى مدن ومواقع في القطب الشمالي كما شاهدها نهاية الأربعينيات.
رحالتان سوريان غامر كل واحد منهما، في أوقات مختلفة، نحو جهات بدت حينها مجهولة لكثيرين، وسجّلا تفاصيل رحلتيهما، فظهر أنهما، ومن خلال عيون الحاضر، كانا يشقان مسار نوع أدبي جديد هو أدب الرحلة العلمية.
الطبيب عبد الغني الشهبندر، منشئ مجلة الحكمة، ترك مخطوطاً بعنوان "الرحلة العلمية في باريس وفيشي وواكس ليبان وأفيان ولوزان وليزن" (المطبعة العلمية/ بيروت، 1931)، بينما ألف الباحث محمد يحيى الهاشمي كتاب "رحلتي إلى منطقة القطب الشمالي" (مطبعة السلام/ حلب، 1949)، على هدي الرحالة العربي ابن فضلان الذي سبقه بقرون إلى أوروبا.
كتابان يضيئان جوانب متخصصة في الطب والظواهر الطبيعية
الفضول في هذه الأسفار يتجاور مع الافتتان بالمجهول في سطور وصفحات الكتابين اللذين صدرا مرة واحدة ثم نُسيا، وتأتي أهمية النظر في التجربتين بشكل رئيسي من زاوية ريادتهما في مجالهما. فرغم أن إرث الرحلات في المنطقة العربية قدّم تفاصيل مثيرة للقراء في الزمنين القديم والحديث، إلا أن العثور على نصوص محددة الاهتمام بالجوانب التقنية والتنظيمية الحديثة في البلدان المستهدفة بالزيارة يؤشر إلى وعي متقدم، يركز على مساحات متخصصة وغير مطروقة من عامة الناس.
يهتمّ الشهبندر بالعاصمة الفرنسية بوصفها مركزاً للعلوم والثقافة، والمستشفيات والجامعات التي زارها وطرائق تنظيمها، ومدينتي فيشي وأفيان بوصفهما مراكز للعلاج بالينابيع الطبيعية، وواكس ليبان ولوزان وليزن كونها مدناً سويسرية هادئة تعكس الطبيعة الخلابة وأساليب التعليم الطبي المتقدمة.
ويمزج بين الملاحظات المهنية الدقيقة، مثل طرق العلاج والتقنيات الطبية الحديثة، وبين الوصف الثقافي والاجتماعي لتلك المدن، وأيضاً عادات السكان وأساليب حياتهم. كما يقدّم الشهبندر انطباعاته الشخصية وتجربته العملية بروح الفضول والمعرفة التي ميّزت جيل الرواد في القرنين التاسع عشر والعشرين.
أما الهاشمي، القادم من خلفية الدراسات والبحوث الاجتماعية، فتبدو رحلته نحو القطب الشمالي مرتهنة لنزعة فضول حيال الجغرافيا القاسية، والمناخ المتجمد، والحياة البرية، وأساليب البقاء في الظروف القطبية. ويشرح التجهيزات المستخدمة، وأساليب التنقل في الثلوج والجليد، مع ملاحظات دقيقة عن الظواهر الطبيعية والتضاريس القطبية. بالإضافة إلى تحليلات علمية واجتماعية، موضحاً تأثير المناخ والبيئة على السكان المحليين، العادات وأساليب الصيد والبناء، وأيضاً المقارنة بين الحياة في القطب الشمالي والحياة في مناطق أخرى زارها أو درسها سابقاً. وفي تدوينه، يدمج الكاتب بين السرد الأدبي والتوثيق الميداني، ما يضع رحلته، بالإضافة إلى رحلة مواطنه المذكورة أعلاه، رغم تباعد الأزمنة والموضوعات، دليلاً على أن أدب الرحلات في العالم العربي لم يكن مجرد سرد للغرائب أو الترفيه، بل أداة للمعرفة وتوسيع الأفق، ونافذة لربط الثقافة العربية بالعالم.
