مصر: موجة اعتقالات تدحض وعود الانفراجة السياسية والعفو
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
في الوقت الذي تروّج فيه بعض الخطابات الرسمية وشبه الرسمية إلى وجود انفراجة سياسية في مصر، خصوصاً في ما يتعلق بالملف الحقوقي، تكشف الوقائع الميدانية والبيانات الحقوقية عن مشهد مغاير، تعكسه موجات متتالية من الاعتقالات والمحاكمات التي تطاول سياسيين وباحثين وناشطين بارزين. وتتعلق موجة الاعتقالات في مصر بـ"نشر أخبار كاذبة"، فيما تمثلت أحدث قضاياها في استدعاء الناشط السياسي البارز أحمد دومة، المفرج عنه في 2023 بموجب عفو رئاسي. وأعلن دومة، أمس الأحد، استلامه قرار استدعاء للتحقيق في نيابة أمن الدولة، للمرة الخامسة في قضية سادسة في أقل من عام. وعلّق دومة عبر حسابه الرسمي على منصة فيسبوك مع صورة قرار الاستدعاء بالقول: "استنزاف أعمارنا وطاقاتنا ومواردنا المادية عقاباً على مواقفنا وانحيازاتنا جريمة، وإيقافها واجب، والرهان على استمرار الوضع ده للأبد غباء وجهل، مفيش أبد. والمصير حصاد المسير". في التحقيقات السابقة، أخلي سبيل دومة بكفالة مالية، بعد مواجهته باتهامات بـ"نشر أخبار كاذبة داخل البلاد وخارجها"، على خلفية المنشورات التي يكتبها على صفحته الخاصة على "فيسبوك" تحت عنوان "شبر وقبضة"، والتي كان يتناول فيها أحداث ووقائع تحدث للمعتقلين داخل السجون المصرية. وكان دومة قد حصل على عفو رئاسي في 19 أغسطس/آب 2023، بعد القرار الجمهوري بالعفو عن بعض المحكوم عليهم بأحكام نهائية، وهو قرار يأتي ضمن نطاق صلاحيات الرئيس الدستورية. تهمة "نشر أخبار كاذبة" وكان أحيل الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق، أول من أمس السبت، إلى المحاكمة أمام محكمة جنح الشروق بالقاهرة الجديدة، في خطوة وُصفت بالمفاجئة لفريق دفاعه الذي لم يُخطر مسبقاً بقرار الإحالة. القضية التي تحمل رقم 4937 لسنة 2024 حصر أمن دولة عليا، والمقيدة برقم 4527 لسنة 2025 جنح الشروق، تتهم فاروق بـ"إذاعة أخبار كاذبة بالداخل والخارج". منذ اعتقاله في أكتوبر/تشرين الأول 2024 من منزله بعد تفتيش أمني، ظل فاروق رهن الحبس الاحتياطي دون السماح له حتى باصطحاب أدويته الخاصة، ما أثار مخاوف حول حالته الصحية. خلال الجلسة الأخيرة، تحدث فاروق عن ظروف احتجازه وما يتعرض له من مضايقات، فيما أصر محامو دفاعه على المطالبة بالاطلاع على أوراق القضية والحصول على نسخة رسمية منها، مؤكدين أن الاتهامات تفتقر إلى أي أساس قانوني. من جهة أخرى شددت شخصيات عامة مثل الوزير السابق والمحامي، كمال أبو عيطة، على قيمة فاروق العلمية والأدبية، مشيرة إلى أن الأوراق والمستندات التي بحوزته تكفي لدحض اتهامات "الأخبار الكاذبة". تهمة الناشط شوقي رجب تعود إلى تدوينات كتبها في عامي 2013 و2014 وبرزت ضمن الاعتقالات في مصر قضية أخرى في طنطا بدلتا مصر، إذ تم حبس الناشط شوقي رجب، 15 يوماً على ذمة التحقيقات بتهمة "نشر وإذاعة أخبار كاذبة"، وذلك استناداً إلى تدوينات نشرها على منصة فيسبوك في عامي 2013 و2014. وبعد مرور أكثر من عقد على هذه التدوينات، أُعيد استدعاؤها أداة للتنكيل، إذ ألقي القبض عليه من منزله فجر 22 سبتمبر/أيلول الحالي، ثم اختفى قسرياً لمدة خمسة أيام، قبل أن يظهر في نيابة أمن الدولة العليا، أول من أمس السبت، حيث صدر قرار حبسه 15 يوماً. كذلك أثار توقيف العقيد السابق بالجيش المصري والناشط الحقوقي، ماجد زكريا، المعروف بلقب "مفتي الإنسانية"، قبل أيام موجة إضافية من القلق على الساحة الحقوقية. واشتهر زكريا بخطاباته التي تروّج للتسامح ومناهضة التطرف الديني والاجتماعي عبر المنصات الرقمية. ورغم أنه لم يدعُ إلى العنف أو الكراهية، بل واجه خطاب التطرف بالكلمة والمناظرة، جاء اعتقاله ليطرح سؤالاً عن حدود حرية الفكر في مصر اليوم. في هذا السياق وصف مركز أندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف، في بيان أول من أمس، توقيفه بأنه "اعتقال تعسفي يضاعف من أزمة المجتمع مع خطاب الكراهية"، مؤكداً أن "الحل الأمني وحده لا يكفي لمواجهة التطرف". وشدد المركز على أن ماجد زكريا كان يؤدي وظيفة مجتمعية مهمة، وأن استهدافه يرسل رسالة سلبية للشباب بأن "التفكير الحر قد يكون سبباً في السجن". مشهد الاعتقالات في مصر لا يكتمل من دون استحضار قضية الباحث والصحافي إسماعيل الإسكندراني. فبعد أن قضى سبع سنوات في السجون وأُفرج عنه في نهاية 2022، فوجئ كثيرون بقرار إعادة توقيفه، فجر 24 سبتمبر الحالي، فيما أُدرج هذه المرة على ذمة القضية رقم 6469 لسنة 2025، باتهامات شملت "إذاعة أخبار كاذبة" و"الانضمام إلى جماعة إرهابية" و"الترويج لأفكار إرهابية عبر الإنترنت". سياسات قمعية في مصر ووصفت 13 منظمة حقوقية، بينها المفوضية المصرية للحقوق والحريات ومؤسسة سيف للقانون ومركز النديم والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب (OMCT)، في بيان الجمعة الماضي، توقيف الإسكندراني بأنه "يعيد إنتاج نفس السياسات القمعية، ويرسل رسالة سلبية مفادها أن المجال العام لا يزال مغلقاً، وأي صوت أو رأي عرضة للاستهداف". واعتبر البيان أن استمرار حبسه، رغم وضعه الصحي الحرج واعتماده على جهاز تنفس، يمثل خطراً مباشراً على حياته، مؤكداً أن هذه الخطوات تقوض أي ثقة في الوعود المتعلقة بالإصلاح السياسي أو الانفراج الحقوقي. هناك تناقض واضح بين الخطاب السياسي الرسمي والواقع الميداني إذا كانت هذه القضايا تحمل طابعاً رمزياً، فإن الأرقام والإحصاءات الحقوقية تكشف بوضوح حجم التناقض بين الخطاب السياسي الرسمي والواقع الميداني. فبينما تؤكد الدولة في خطاباتها أنها تسير في طريق "جمهورية جديدة" تقوم على الحوار والمشاركة، تشير تقارير حقوقية حديثة، أبرزها الصادرة عن المفوضية المصرية للحقوق والحريات والجبهة المصرية لحقوق الإنسان، إلى أن عدد قرارات الحبس والاعتقال السياسي منذ بداية 2023 وحتى منتصف 2025 تجاوز خمسة آلاف حالة. المثير في أرقام الاعتقالات في مصر ليس حجمها فقط، بل تشابه بنيتها؛ الغالبية العظمى من القرارات استندت إلى الاتهامات النمطية الجاهزة مثل "نشر أخبار كاذبة" أو "الانضمام إلى جماعة إرهابية"، وهي صيغ اتهام مطاطة تسمح بإدخال طيف واسع من الممارسات السياسية والإعلامية والفكرية تحت عباءة التجريم. هذه الصياغات القانونية تحولت إلى ما يشبه "قالب اتهام موحد"، يختصر التعقيد السياسي والاجتماعي في جملتين فضفاضتين كهاتين الجملتين. في المقابل، تشير الأرقام نفسها إلى صدور قرارات إفراج أو إخلاء سبيل بحق ما يقرب من 1500 محتجز سياسي خلال الفترة ذاتها، معظمها عبر لجنة العفو الرئاسي أو قرارات النيابة العامة. لكن هذه الانفراجة الجزئية في ملف الاعتقالات في مصر تصطدم سريعاً بجدار ما يصفه الحقوقيون بـ"التدوير"؛ أي إعادة اعتقال المفرج عنهم في قضايا جديدة تحمل تقريباً الاتهامات نفسها. يتحول قرار الإفراج، وفق "التدوير"، من لحظة استعادة للحرية إلى محطة قصيرة في رحلة اعتقال أطول. دعوة للإنصات للشارع دفعت هذه الظاهرة الناشط السياسي وائل عباس إلى التصريح لوسائل إعلام محلية، يوم الجمعة الماضي، بأنه "لا يجور أن نخرج شخصا بعفو وندخل آخر مكانه. ودعا الحقوقي طارق العوضي الحكومة في تصريحات صحافية في اليوم نفسه، إلى الإنصات لصوت الشارع، وعودة المنظمات الوسيطة لممارسة دورها كجسر بين الشعب والدولة، والاستماع للنقد لا "للمطبلين"، لافتاً إلى أن "الغليان الصامت في الشارع المصري يحتاج إلى إنصات وليس إلى مديح". كما دعا إلى عودة تفعيل لجان العفو الرئاسي، الذي يشغل عضويتها، لتمارس مهامها في الإفراج عن سجناء الرأي ومن لم يثبت ممارسة للعنف والإرهاب. ووفقاً لحصر تقديري لـ"العربي الجديد"، بناء على ما تصدره منظمات حقوقية ورصد للأعداد، فإن نحو ثلث المفرج عنهم أعيدوا إلى السجون بعد فترة وجيزة، ما يجعل من الإفراج أشبه بمهلة مشروطة أو "استراحة مؤقتة" في مسار لا نهائي من الحبس الاحتياطي. هذا النمط يخلق ما يشبه الدائرة المفرغة: اعتقال – إفراج – إعادة اعتقال، بحيث يصبح القانون نفسه أداة لإدامة الاحتجاز بدل أن يكون وسيلة لحماية الحقوق.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية