عربي
جرى في الفترة الأخيرة تداول فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، منقول من إحدى ساحات نيويورك لأفراد من الجالية السورية خلال انتظامهم في وقفة ترحيبية بالرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، وقد ظهرت في الفيديو طفلة تقوم بحركات صنّفها البعض على أنّها تصرّفات تجييش طائفي ولا تنتمي إلى الأخلاق بصلة.
الحادثة حقيقية، مؤلمة جدًا وموّلدة للخيبة، وهذه الخيبة ليست جديدة أبدًا، بل تتعاظم لتشكّل نسقًا احترابيًا، وكأنه يؤكّد عزلة الأطراف السورية عن بعضها، وبصورة فجائعية.
الأهم أنّ الغالبية تتعامل معها على أساس أنّها افتراقات أصيلة وعميقة وتمّ تظهيرها وإعلانها بطريقة انفجارية بعد سقوط النظام، الذي لم يكن يتوقّع أحد سقوطه، وهو حدث فارق وعظيم في تاريخ سورية.
يحمل الفيديو بين ثناياه افتراقات عديدة، أوّلهما وجود فريقين في ساحة واحدة وكلّ يواجه الآخر بطريقة عنيفة عبر العبارات المنطوقة بصوتٍ عالٍ واتهامي، عبر الإشارات التي باتت جزءًا من الصورة البصرية العامة، والتي تمّ تقبّلها من الغالبية، ومن لم يتقبّلها سكت عن إدانتها إلا في إشارات خجولة وقليلة العدد والتأثير العام.
صورة مقابل صورة من دون أيّ اعتبار للطفولة وحقوق الأطفال وسلامتهم الجسدية والنفسية
لم ينقد الطرفان أو يمجّدا خطة عمل الحكومة مثلًا، ولم يستعرض أيّ من المؤيدين برنامج عمل يتوافقون معه ويؤكّدونه، بل أبرز المعترضون صورًا وبعض اللافتات التي تظهر بعض المشاهد الدموية أو بعض الشعارات المُدينة للسياسة العامة، خصوصًا السكوت عن الانتهاكات وعدم تقديم مرتكبيها للعدالة في حالة عامة من الإنكار، وفي أحسن الأحوال كان هناك تصريح مُرفق بآلاف التبريرات. وكان الأكثر مرارة وتهديدًا للوطنية السورية، تحميل هذه الانتهاكات الجسيمة لأفراد وجماعات محدّدة، ومحاولة إلباسها ما حصل في سعي لتنصّل السلطة، ليس فقط من الانتهاكات، بل من مسؤولياتها الواجبة عليها، لا لتثبيت السلم الأهلي وحمايته، بل لتثبيت الخريطة الوطنية السورية للسوريين كافة بمختلف مناطقهم الجغرافية وبمختلف تنوّعهم وتكوينهم.
إنّ التركيز على الطفلة وحركاتها وإشاراتها المرفوضة قطعًا هو اغتيال لطفولتها وزجّ الطفلة في أتون تجاذبات حادة بين طرفين متنازعين. كان من الضروري تغطية وجه الطفلة وعدم تكرار عرض الفيديو حرصًا على طفولتها ومنعًا من إلباسها مسؤولية انتهاك لا تحتمله أصلًا، وهذا ما كان واضحًا في الفيديو التبريري التالي لسلوكها، الذي بثّه والدها، حيث جلست الطفلة في حالة من التوتّر تدفع ضريبة تصرّفات وردود فعل تكرّرت أمامها، أو ساقها ذووها لها على أنّها طبيعية، وكأنها لغة قابلة للتداول وإشارات لا ضرر لها ولا تحمل أيّ معنى إقصائي.
ردّ البعض بصور أخرى قادمة من السويداء لأطفال يحملون السلاح، لأطفالٍ قاصرين وقاصرات أيضًا ومن دون تغطية وجوههم. إذن جاء الرد بالصيغة نفسها. صورة مقابل صورة من دون أيّ اعتبار للطفولة وحقوق الأطفال وسلامتهم الجسدية والنفسية، والاعتبارية مع قول مبطّن: وكان البادي أظلم.
يختبر السوريون الخيبة وكأنّهم على موعد متجدّد معها
في الحالتين، جاء استخدام الطفولة والأطفال في سياق تصعيدي لتجريم الآخر، الذي أُلبِس ثوب الخصومة وصُنِّف بخانة المعتدي الذي يستحق الرد بصورة قاسية غير قابلة حتى للتعقّل أو المسؤولية.
كان كافياً إظهار الخروقات التي قام بها عدد من الرجال البالغين في ساحة الحدث في نيويورك، لتثبيت الإدانة وتوضيح السلوك المُخالف والمعتدي على كرامات السوريين بحركات رمزية غير مقبولة وينبغي المعاقبة عليها. لكن للصراع آليات، على البعض دفعها للذروة إن رأت تلك الأطراف أنّ ذلك واجب ومسؤولية لا بدّ من سلك مسالكها، ولو على حساب أطفالهم.
يختبر السوريون الخيبة وكأنّهم على موعد متجدّد معها، وإذا ما قال أحدهم: التزموا إبعاد الأطفال عن ساحات الصراع العسكري واللفظي والنفسي، سيكون الجواب جاهزًا؛ سيحمّلون الذنب لغيرهم للأسف الشديد. فيما أطفالهم جالسون بينهم يقضمون أظفارهم من القلق وقلوبهم تقول: "والله أنا ما دخلني!".
وأمّا أحاديث قلوب الأطفال فتذروها الرياح، وأمّا مواضيع الخيبة فهي متجدّدة وتتجذّر بعمق.