
عربي
تخلى الشاب الصومالي عبد القادر عيسى سمتر، عن أعوام من الخبرة في العمل بمزارع أشجار اللبان، في جبال علمسكاد بإقليم بري شمال شرقي البلاد، فلم يكن أمامه من خيار، بعدما ابتُز وتلقى تهديدات متصاعدة من عناصر إرهابية تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2016، فاتجه للعمل في التنقيب عن الذهب بمنطقة ملحو في مرتفعات جبال علمدو بإقليم سناغ شمالي الصومال، إلا أنه للمرة الثانية واجه المصير ذاته فاضطر لمغادرة المنطقة التي سيطرت عليها عناصر من حركة الشباب المتطرفة.
قبل فرار سمتر، لاحظ تزايد عدد المنقبين ممن قبلوا التعامل مع التنظيم، إذ بلغ عددهم 5 آلاف مُعدّن، بينهم إثيوبيون ويمنيون وسودانيون، حسب ما يؤكده، محمود سعيد ديري، سكرتير الإدارة المحلية لمنطقة ملحو، قائلا لـ"العربي الجديد": "تحصل حركة الشباب على ما بين 10% و30% من قيمة الذهب المستخرج، ومن يرفض الدفع، يمنع من دخول المنطقة" وما يساعد الحركة في استمرار نفوذها، عقود من الصراعات العشائرية، للسيطرة على الموارد وتوسيع النفوذ، كما يقول لـ"العربي الجديد"، عبد القادر علي سليمان، المدير في وزارة الأمن بحكومة ولاية بونتلاند.
حروب العشائر
تتوزع مواقع التنقيب عن الذهب في مناطق صومالية مختلفة، إذ توجد أربعة مواقع في محيط مدينة بوراما عاصمة إقليم أودل شمال غربي البلاد، وخمسة مواقع في محيط مدينة هرجيسا عاصمة أرض الصومال، وموقعين إلى الشرق من مدينة لاسقوري في بونتلاند، بحسب سليمان.
ويعود الصراع على الأراضي الغنية إلى عام 2006 عندما أبرم محمود موسى حرسي، رئيس ولاية بونتلاند الأسبق، اتفاقية مع شركة Range Resources Limited (ASX:RRS) الأسترالية لاستخراج المعادن في إقليم سناغ، دون الاتفاق مع أعيان قبيلة ورسنغلي (عشيرة تنتمي إلى قبائل الدارود الصومالية ذات الأصول العربية)، التي تمتلك الأرض، ورفض دفع تعويضات لهم، الأمر الذي قوبل برفض ومقاومة من قبل مسلحي العشيرة، لتشتد حدة القتال بين الطرفين، مما أدى إلى مقتل عناصر من قوات ولاية بونتلاند، وتوقف الشركة عن العمل في المنطقة، بحسب تقرير "بين أرض الصومال وبونتلاند: التهميش والتدخل العسكري والتباين في الرؤى السياسية" الصادر عن Rift Valley Institute (منظمة مستقلة غير ربحية) في مايو/أيار 2015.
وإقليم سناغ الغني بالذهب والمعادن، من أكثر المناطق المتنازع عليها شمال البلاد، إذ تطالب كل من ولاية بونتلاند وصوماليلاند وخاتمو شمال شرق، بالسيادة عليه استناداً إلى اعتبارات قبلية وتاريخية وسياسية، وفق الزعيم القبلي في عشيرة المجيرتين (أحد أذرع قبيلة الدارود)، أحمد علي بوص، مشيرا إلى وقوع مواجهات مسلحة في نوفمبر 2019، بين عشيرة ورسنغلي وبين قيلة إسحاق (تتوزع في شمالي الصومال) على ملكية موقع "شدن" الغني بالذهب، مما أسفر عن مقتل 12 شخصا، ولاحقا توصل الطرفان عبر وسطاء إلى وقف إطلاق النار، مع بقاء النزاع على ملكية الأرض حتى الآن، كما يوضح بوص لـ"العربي الجديد".
تتجدد تلك الصراعات طوال الوقت، ففي نهاية يوليو/ تموز2021، نشب خلاف بين عشيرة عيسى (تتوزع في الصومال وجيبوتي)، وعشيرة ورسنغلي، حول تشكيل إدارة محلية في منطقة ملحو، بعدما عارضت الأخيرة مقترح تشكيل الإدارة المحلية الجديدة، ليتطور الخلاف بين الطرفين إلى اشتباكات أدت إلى مقتل 6 أشخاص، وفق إفادة المعدن الصومالي عبد مهدي أحمد موسى (30 عاماً)، الذي أصيب في تلك الاشتباكات، مضيفاً لـ"العربي الجديد" إن أهالي القرية توصلوا في مطلع عام 2024، إلى تشكيل إدارة محلية مختصة بتنظيم شؤون التعدين في المنطقة لكن عناصر من حركة الشباب عارضوا ذلك، وسيطروا عليها.
"داعش" و"الشباب" يستغلان الصراع القبلي
معظم الأراضي التي نشبت حولها خلافات بين العشائر لم تكن مملوكة لأحد سابقا، بحسب بوص، مشيراً إلى أنّ المناطق الجبلية الوعرة، تحولت بعد اكتشاف الذهب إلى بؤر للنزاع على الملكية بين القبائل، مما يزيد من تفاقم مشكلة الصراعات القبلية والعشائرية الموجودة أصلا قبل ظهور تلك الموارد.
ومهّد غياب الدولة وصعود حركة الشباب وتنظيم داعش، إلى توسع الحركات المسلحة فسيطرت على جبال علمسكاد ومرتفعات علمدو وتوسع نفوذها وهيمن على عمليات التعدين غير القانونية للتنقيب عن الذهب، فضلاً عن تجارة اللبان التي تشتهر بها تلك المناطق، ويسعى كل من التنظيمين إلى ترسيخ سيطرته عليها، وقطف ثمار ما توفره من فرص مالية كبيرة، وما يساعدهما، كون تلك المناطق متسعة ووعرة بالإضافة إلى بُعدها النسبي عن المراكز الحضرية، مما جعلها ذات أهميةً استراتيجية وعسكرية متزايدة في الحرب بين التنظيمين، بحسب ما يرصده الضابط سليمان.
وقع ذلك قبل أن تتمكن قوات بونتلاند من طرد معظم عناصر داعش في بداية العام الحالي، وتحرير مساحات شاسعة من الأراضي تصل إلى 250 كيلومترًا مربعًا، بما في ذلك، تدمير 50 قاعدة للتنظيم، منذ بدأت الحملة العسكرية ضد تنظيم داعش في 31 ديسمبر/كانون الأول 2024، كما يقول سليمان، لـ"العربي الجديد": "الدولة مهتمة بترسيخ نفوذها في تلك المناطق الشمالية الغنية بالذهب واللبان ومنع التنظيمات المتطرفة من الاستفادة منها".
ويقدر الذهب المستخرج سنويا من منطقة ملحو بنحو 300 كيلوغرام، حسب ما يقوله عبد الرزاق عبد القادر، الباحث المتخصص في الحوكمة والأمن بمنطقة شرق أفريقيا في معهد هورن الدولي للدراسات الاستراتيجية (مؤسسة بحثية مقرها نيروبي)، موضحا لـ"العربي الجديد" أن معظم المناجم تغيب عنها القوات الحكومية، والسيطرة الكبرى لحركة الشباب.
منع المزارعين من الوصول إلى أشجار اللبان
وصلت كمية البخور (يصنع من منتج شجرة اللبان) المُصدرة من الصومال إلى الدول العربية في عام 2023 إلى 1150 طنا، ليتراجع في عام 2024 إلى 367 طنا، بحسب بيانات وزارة النقل البحري والموانئ في حكومة ولاية بونتلاند.
ويعود التراجع إلى صراع تنظيم داعش مع قوات ولاية بونتلاند، ما أدى إلى تأثيرات سلبية على مزارع اللبان في إقليم بري، مثل تعطيل عملية الحصاد وعرقلة نقل المنتج للتصنيع والتصدير، حسب ما يقول الدكتور عبد الفتاح نور أحمد، وزير الدولة السابق للإعلام والثقافة والاتصالات في حكومة بونتلاند، لـ"العربي الجديد" مشيراً إلى أن "داعش" يفرض إتاوات تصل إلى 10% من قيمة المحصول، مما يزيد من الضغوط الاقتصادية على المزارعين ويؤثر على مصدر دخلهم.
تضررت 2500 أسرة تعمل في تجارة اللبان بسبب تنظيم داعش
و"تواجه نحو 2500 أسرة ريفية تعمل في تجارة اللبان صعوبات شديدة منذ ديسمبر 2024 عندما تصاعدت وتيرة الحرب بين قوات بونتلاند وتنظيم الدولة الإرهابي في منطقة بري شمال شرقي الصومال" وفق ما نشره موقع ReliefWeb التابع لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، في 11 مارس/آذار 2025، بعنوان "النزاعات المسلحة بين قوات بونتلاند وتنظيم داعش تسبب في نزوح مزارعي اللبان في منطقة بري" ونقل شهادة فوزي عبد الله عبد الرحمن، الذي يكافح من أجل توفير الغذاء والمأوى لعائلته المكونة من 12 فردًا، بعدما اضطر للفرار بسبب الصراع ولم يعد بإمكانه الوصول إلى حقول اللبان الخمسة التي يملكها في تلال إسكوشوبان، على بعد حوالي 86 كيلومتراً شرق قندلا".
في خدمة حركة الشباب
تسعى حركة الشباب لفرض سيطرتها وتوسيع نفوذها في إقليم سناغ لتمويل تحركاتها عبر المعدن الأصفر، وفق إفادة الباحث عبد القادر، موضحاً في تقرير "الصراع على الذهب في الصومال" الذي شارك في إعداده ونشر في نوفمبر 2022، أن حركة الشباب، أصبحت تفرض 30% من سعر البيع على المُعدن أو بائع الخام، ولديها نحو 100 عامل في المنطقة، حيث تقدم عناصر من شبكة الاستخبارات في الحركة معلومات لوحدات تحصيل الضرائب على أنشطة التعدين هناك.
تفرض حركة الشباب إتاوات تصل إلى 30% من سعر بيع الذهب
وتبلغ الضرائب التي تجمعها الحركة شهرياً نحو 15 مليون دولار أميركي، أكثر من نصفها تأتي من مقديشو، فضلا عن نسبة الزكاة السنوية البالغة 2.5%، وضريبة بيع الأراضي، والمنتجات الزراعية، ولا يوجد أمام المطالبين سوى الدفع وإلا الإغلاق والقتل، حسب دراسة صادرة عن معهد هيرال (مؤسسة صومالية متخصصة بالشؤون الأمنية) في أكتوبر/تشرين الأول 2020، بعنوان "لعبة خاسرة: مواجهة النظام المالي لحركة الشباب" والتي استندت إلى إجراء مقابلات مع 70 من رجال الأعمال وموظفي الحكومة وممثلي المنظمات غير الحكومية في مقديشو، وولاية الجنوب الغربي، وهيرشبيلي وسط البلاد، وجوبالاند جنوباً، وبونتلاند، موضحة أنّ جزءاً من هذه الأموال تذهب لشراء الأسلحة وتمويل العمليات العسكرية للحركة.
هنا تأتي أهمية مناطق التعدين أحد المصادر المهمة لتنظيم داعش وحركة الشباب، إلى جانب تهريب الفحم النباتي وتجارة السلاح، وعمليات ابتزاز الشركات المحلية لدعم أنشطتها الإرهابية، كما يقول الدكتور أحمد، مضيفاً أنّ "داعش" وحركة الشباب يشكلان تهديداً للأمن والاستقرار في البلاد والمنطقة عامة، ما دعا حكومة بونتلاند إلى خوض حرب ضارية في مرتفعات جبال علمسكاد، منذ أواخر عام 2024، وحتى اليوم لتتمكن من قتل 600 مقاتل أجنبي في محاولة لتجفيف الموارد التي توفرا شريان حياة لاستمرار الفوضى والإرهاب في الصومال.
