عربي
أحبّ ملء وقت المواصلات بالكتابة أو الاستماع لما هو مُفيد، حسب الحالة المزاجية. وبطبيعة الحال عندما أكون برفقة الصغار فهذا أمر مُتعذّر، فكلمة من هنا وسؤال من هناك، يجعلانك مشغولًا معهم. أكتب الآن في "المترو" واقفًا أستمع إلى أغنية قديمة. تقول لي زوجتي: إنّ الكتابة علاجٌ، ولو لم تتنبّه له.
قدرة المرء على كتابة أفكاره، ومن ثمّ مشاعره، وما يعتري صدره من أسرار، هي منحة بلا شك. أبتسم لها في كلّ مرّة، وأُضمر في صدري (إضافةً إلى ما قالت) أنّ الكتابة حاجة كذلك، أستشعر ذلك في مكان قصيّ في نفسي، بأنني أحتاج إلى أن أعبّر عمّا يختلج في موضع غائر جدًا، أخرجه من سراديب النسيان عبر الكتابة، لأدوّن تلك الأعاصير الهائجة التي تتصارع في عقلي، وأعيد إنتاجها، كلماتٍ معبّرة، وجُملًا تحمل قبسًا من ذاتٍ تتطلّع إلى أمرٍ ما، أتمثّل بها، وتتمثّل بي، هي بعضٌ مني مهما قلت، وها أنا.
بدأت بالكتابة وكنت أنوي الحديث (وأعدّ الكتابة ضربًا من الحديث) عن موضوع يُلامس شغاف قلبي، ولكني اندفعت للحديث عن الكتابة، وما تعنيه لي، وما تمثّله في حياتي، عن ذلك الفعل غير المتوقّع، والحاجة الفطرية التي تدفع شخصًا ما، في لحظة ما، أن يفتح برنامج المُلاحظات في هاتفه ويكتب من دون توقّف، عن سيلٍ متدفّق لا يهدأ، وكأنّك في هذه الدقائق القليلة تُملي نصوصًا قد حفظتها في زمنٍ مضى، وتستعيد جملًا تعتصرها نفسك كما تُخرج الزهرة رحيقها. هل قلت لكم إنه فعلٌ لا إراديّ، وهو ها هنا كذلك... ولا أُخفي عليكم أنّها واحدةٌ من أسعد لحظات الكاتب، أن تتدفّق الكلمات من دون تدخّل منه، أن تتلاحق حروفه وكأنّه يسكب شيئًا من ذاته، أوليست الكتابة جزءًا كامنًا من ذات كلٍ منّا؟
الكتابة إشراقةٌ تمضي من عقل الكاتب إلى عين القارئ، ومن قلب الأوّل إلى وجدان الثاني
من يختبر الكتابة الجادة البحثية، أو الصحفية أو غيرها، يعرف تمام المعرفة لحظات الانسداد الذهني، والكلل من مهام مُكرّرة، وصيغ مكرورة. فأيّ عمل إبداعي (إن صحت التسمية فكل عمل إبداع) يتطلّب قدرًا من السكينة الداخلية، وقدرة على الصفاء الذهنيّ والفكريّ للانطلاق فيه. تخيّلوا أن تكون الكتابة ذاتية أدبية، يبحث فيها المتأدّب عن أجوبةٍ لنفسه أولًا، ولمن يقرأ له ثانيًا، ولو كانوا واحدًا فقط. المهم أنّ هذه اللحظات الرقراقة من أرقّ ما يعتري المرء، ويجد فيها تجليات لا يصل إليها كلّ حين، إذ تتفتّق قريحته عن أشياء لم يكن يعرفها مسبقًا، يكتشفها مع القارئ، أو قبله بقليل.
ربما تأثّرت قليلًا بما أقرأ في الأيّام الماضية، إذ حمل كتاب "الظل والحرور" جرعة جميلة من مختارات من السير الذاتية للعديد من الكتاب، وفيها ملامح بديعة عديدة. وكنت البارحة أطالع جزءًا يتناول عادات الكتّاب في عملهم، ولا أُخفي عليكم فقد رسمت على شفتي الابتسامة في أكثر من موضع، عندما أقرأ عن عادة أقوم بها، تشبه عادات كبار الكتاب مثل الزيّات والرافعي ومحمد كرد علي، وعلي الطنطاوي، ومحمد رجب البيومي رحمهم الله وغيرهم. تكتشف حينها أنك تبني عاداتك الخاصة، متأثّرًا أو غير متأثّر، ولكنها عادات في الجلسة والكتابة. نعم هي مختلفة عنهم كثيرًا، إذ طغت علينا التقنية واستخدام الهاتف الذكي أو الحاسوب، ولكنها تظلّ تُذكّرك بأن هناك رحمًا ما مع هؤلاء الكبار، ومع السالكين على دربهم، نتلمّس الطريق إليهم ومعهم.
أيّ عمل إبداعي يتطلّب قدرًا من السكينة الداخلية، وقدرة على الصفاء الذهنيّ والفكريّ للانطلاق فيه
لقد بدأت وكان هناك شيء جاثم على قلب محدّثكم، وها أنا أُكمل الكتابة أَرْوَح نفسًا، وأكثر انطلاقًا. ليتني أستطيع تحويل عادتي هذه، إلى مهارة أُعطيها لكلّ من يحتاج إليها، فهي ليست لكلّ أحد، ليس رفعةً (معاذ الله)، فلكلّ منا وجهة يصرف فيها بعض أكدار روحه، بوحًا لحبيب، أو حديثًا مع صديق أو قريب، أو للقلم والحروف على غرار صاحبكم، وقد اخترت لنفسي الأولى والأخيرة، ولكلٍ منهما أثره وما يتركه في الذات من طمأنينة وهدوء.
الكتابة إشراقةٌ تمضي من عقل الكاتب إلى عين القارئ، ومن قلب الأوّل إلى وجدان الثاني، يذوي الأول تحت سطوة عبارته، وَجدًا أو ألمًا وأحيانًا ألقًا، ويطرب الثاني من وقعها في داخله، تظلّ الحروف رسالة لا تهدأ، تحمل ما شاء الله لها أن تحمل، فكرًا وعلمًا وأدبًا، ومشاعر كثيرة مضطرمة، وكم من واحدٍ يهتز طربًا لأبيات المتنبي أو ابن زيدون:
عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي
أُوَجِّهُــها جَنـــوباً أَو شَــمــالا
******
أَضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا
وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا
أوَليست هذه الكلمة إعجازًا عظيمًا، ومكرمة إلهية، اختصّ بأعلاها وأرفعها وأسماها ربنا لكتابه الكريم، وآياته المُحكمة، فكانت قرآنًا معجزًا يُتلى إلى يوم القيامة، فهو نورٌ، وشفاء، ورحمة، وموعظة، وبُشرى، ونذير، وغيرها؟ وما سوى ذلك مبثوث في نفوس الناس وأذواقهم وعقولهم، وشعرهم وأدبهم وما يقولونه وسواه...
هذه مشاعري وأفكاري عن الكتابة والقلم، عن رحلة ابتدأتها في زاوية في منزلنا، في ذلك الحي المتواضع منذ نحو 18 عامًا، كانت قصاصات و"خربشات"، وهي اليوم ما ترون، وأسأل الله أن تكون في يوم ما نصوصًا تُحفظ في ذاكرة العربية، وجزءًا من استمرارها وتألقها.
إنه سميع مجيب.
أخبار ذات صلة.

اتفاق على وقف فوري للنار بين دمشق و«قسد»
الشرق الأوسط
منذ 17 دقيقة

«الحرس الثوري» يتأهب صاروخياً للتهديدات
الشرق الأوسط
منذ 21 دقيقة