
عربي
في كل مكان من هذا الكوكب المرهق، يعود شهر سبتمبر/أيلول محمَّلاً برائحة الدفاتر الجديدة وألوان الحقائب المدرسيّة التي تُشبه أجنحة الفراشات. يتباهى الآباء بصور أبنائهم على أبواب المدارس. تُعرض أقلام الرصاص في واجهات أنيقة كأنها مجوهرات. وبينما يتمنّى العالمُ سنةً دراسيّة ناجحة لأطفاله، يوزّع الصهاينةُ الصواريخ على أطفال غزّة. وبينما وزارات التعليم تتفاخر بمشاريعها الرقميّة، يتفاخر جيش الاحتلال بعدد المدارس التي رَقْمَنَها غباراً. هنا لا يعود الطفل إلى مقعده، بل إلى خيمته. لا يعود إلى حقيبته، بل إلى كفنه. يحتفل العالم بالعودة المدرسية بوصفها عيداً للمعرفة، بينما يحتفل نتنياهو وزبانيته من السابقين واللاحقين والمؤلّفة قلوبُهم وجيوبُهم بما يمكن تسميته (بلا مبالغة) الإبادة المدرسيّة، ذلك الوجه الآخر من التخصُّص نفسه: الإبادة الجماعيّة. إنها عودة من نوع آخر: عودة الذاكرة إلى الجريمة نفسها، والجرح نفسه، والطفولة نفسها التي تُذبح كل عام وكأنّها لم تُذبح من قبل. هكذا تتقاطع أعياد البشر مع أعياد الوحش.
يكفي التذكير بالأرقام الجافّة التي ما انفكّت تتداولها تقارير الأمم المتّحدة لرسم ملامح الكارثة: منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 قتلت الغارات الإسرائيلية ما لا يقلّ عن 17 ألف تلميذ وأكثر من 1200 طالب جامعيّ. ما يقارب ألف مُعلّم وعامل في مجال التعليم قضوا تحت القصف، بينما أصيب أو اعتُقل الآلاف. وهي أرقام تسقط طبعاً بفعل التقادم من ساعة إلى أخرى. ويؤكّد مدير شؤون وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في غزّة، سام روز، أنّ معدّل الأطفال القتلى يراوح بين 35 و45 طفلاً يوميّاً، أي بمعدّل فصلٍ كامل في اليوم الواحد. لقد حوّل الإجرام الصهيونيّ مدارس غزّة مقابر وأنقاضاً. 97% منها تضرّر جزئيّاً أو كليّاً، حسب التقارير نفسها. أكثر من 432 مبنى مدرسيّاً دُمّر مباشرةً. أرقام مذهلة، مُشينة، لو كانت تخصّ أيّ بلد آخر في العالم، لكانت كافيةً لإعلان حالة طوارئ دوليّة. لكن لأنّها تخصّ غزّة، فإن العالم، في أفضل الأحوال، يواصل التنديد "الخطابيّ" بالحرب، من دون أن يفعل ما يجب لإنهائها.
وعلى الرغم من هذا التخريب المُمنهج، يصرّ الفلسطينيُّون في القطاع على التمسّك بخيط رفيع من المعنى. بعض المعلّمين والمتطوّعين نصبوا خياماً في قلب الدمار وحوّلوها قاعات تدريس بدائيّة، حيث يجلس الأطفال متراصّين على أرضيّة رمليّة وداخل جدران قماشيّة، رافضين الاعتراف بسقوط سقف العالم على رؤوسهم. أحد المعلّمين صرّح لإحدى الفضائيّات: "هنا، التعلُّمُ ليس مسألة كتابة وقراءة. إنه محاولة يائسة للتشبّث بقدر من الطبيعي، بينما تُحوَّلُ ساحاتُ اللعب مقابر، والكتُبُ رماداً".
السؤالُ هنا، وفي حالِ قيامنا برسم خريطةٍ للمدارس المهدّمة في مختلف أنحاء العالم، أين توجد نقطة الذروة من حيث الأنقاض؟... في غزّة، حيث يرغب الصهاينةُ حكومةً وجيشَ احتلال في محو (بل في تفسيخ) مستقبل فلسطين، عبر محو التاريخ والذاكرة والثقافة، مُختَزَلَةً في فضاءات التربية والتعليم، أو في هذا العالم الصامت الخطابيّ المشيح المتواطئ، الذي لا يريد الانتباه إلى ما لا يقلّ بشاعة: الأنقاض الصامتة الكامنة في مدارسه المتوحّشة، تلك المدارس المزدانة بالمكيّفات والسبّورات الذكيّة، التي طُرِدَت منها القيمُ الإنسانيّة باسم التحديث والحياد ومحاربة الإرهاب والدفاع عن النور والتنوير (!). مدارس تُدرِّس التقنية وتُهمِلُ الحريّة. تُراكِمُ الشهادات وتَنسَى الكرامة. تُطوِّبُ المنافسة وتمحو المساواة. تُعلِّم الحساب ولا تُعلِّم المحاسبة والإنصاف. حيث الدبّابة التي تدهس الجسد هنا تدهس الروح هناك، والصاروخ الذي يحطّم السقف هنا يهدم الأخلاق هناك.
وإذا كانت الأنقاض مكشوفةً للجميع في غزّة، فهي في أغلب بلاد العالم متخفّية في كتب المقرّرات، وفي سياسات لا ترى في التربية إلا تدريباً على قتل اللغة وإبطال التفكير وتقليم الأظفار ودخول بيت الطاعة. وإذا كان من الحتميّ أن ينهض الطفل متمسّكاً بالحلم من تحت الأنقاض الفلسطينيّة، فلن يخرج من تحت الأنقاض الأخرى سوى آلة بلا عقل وتاجر بلا ضمير. وليس من شكٍّ في أنّ الركام الحقيقي ليس دائماً من أنقاض الإسمنت والحديد، بل هو من ذاكرة أُفرغت من الحبّ والجمال والعدالة، ومن مستقبلٍ يُعاد صياغته بلا إنسان. تلك سخرية التاريخ: مدرسةٌ مهدّمةٌ بالبارود قد تُبنى غداً، أمّا مدرسةٌ مهدّمة بالقيم المبتورة، فهي خرابٌ أبدي.

أخبار ذات صلة.

عاما إبادة غزة يهزّان صورة إسرائيل في الغرب
العربي الجديد
منذ 17 دقيقة

شمال سيناء شاهدة على عامين من حرب غزة
العربي الجديد
منذ 17 دقيقة