
عربي
يتوجّه كُتّاب القصة القصيرة لإخبارنا بشيء واحد فحسب، أو ربّما ما أهو أقل. وذلك بسرد محكم ومشدود، مثلما يتحدّثُ الفيزيائيون سعياً لتوضيح مفهوم الانفجار الكبير، حسب تعبير الناقد الأميركي أنغوس فليتشر، الذي يضيف "في العادة تنطوي كلّ فعالية سردية (سواء كانت كتابة أو مشافهة) على التخييل أو البلاغة، وفي أحايين قليلة على الاثنَين معاً". وإذا عملنا بما قاله فليتشر فإنّنا سنساعد أنفسنا على الاستعداد على الفور لتلقي/ سماع الانفجار الذي سيخبرنا به القاصّ، وهذا الإخبار هو على أيّ حال لا يتجاوز عملية تناقل الأفكار.
إنّ التخييل، في الإبداع القصصي، هو اختلاق. والبلاغة جهد يبذله البلاغيون والشعراء على حدّ سواء لإضفاء الأدبية على الاختلاق من أجل إكسابه المشروعية. وسنرى كيف يحصل ذلك في "قصص/نصوص" مجموعة "الخميس" لمحمد الأشعري (منشورات المتوسط، 2024)، التي تطرح أسئلة من وحي قراءتها: كيف يمكن الارتقاء بالواقعي إلى التخييل؟ وكيف يمكن الارتقاء بالتخييل إلى البلاغة؟ كيف نسترجع التاريخ الواقعي القريب ونجعله يبدو في شكل قضايا مطلقة وغائبة؟ كيف يمكن تصديق كل ذلك، والنأي عن الواقع من أجل فهم حقيقي وأصيل للنص؟ إنّ مثل هذه الأسئلة توجد في سطح النصوص/القصص، لكن الأعماق توجد فيها مضامين وحقائق أخرى.
كلّ ذلك وأكثر
منذ قراءة الأسطر الأولى من نص "ريكله وجدتي" (ربّما هناك خطأ مطبعي، المقصود هو الشاعر الألماني "ريلكه" وربما التحريف مقصود بغرض إحداث السخرية) وقعت عيني على اسم المدينة الجبلية الصغيرة مولاي إدريس زرهون، وهي مسقط رأس الأشعري: "منذ فتحتُ عيني على الحياة في مدينة مولاي إدريس زرهون، تعودتُ على التعايش مع المجانين...". هل أقرأ نصّاً أدبياً ضمّنه المؤلف جزءاً من حياته؟ هل سيمرّ عقلي، وأنا أقرأ هذه القصص، من مراحل تشكل التخييل، ثم البلاغية التي ستجعل من التخييل حقيقة مشروعة؟
التخييل والبلاغة معاً يغلفان الواقع والتاريخ في المجموعة
حين أنهيت القراءة كان جوابي: كل ذلك وأكثر. وجدت كقارئ هذا الـ"كل ذلك وأكثر" في "قصة" أخرى عنوانها "الخطاب الأخير"، إذ يجري ذِكرُ اسم الملك الحسن الثاني، وقبله ظلّ السارد يلمّح بعبارات كثيرة، متتالية مثل الطلقات النارية، إلى أنه سيمهر ريشته في الحبر ويخوض في شؤون السياسة. وحين وصلت إلى وصف الشخص المقصود وتقديم معلومات عنه، كان أهمّها أن هذا الشخص قد استُؤصلت إحدى رِئَتَيه في مدريد، أدركتُ أن التخييل والبلاغة معاً يغلفان الواقع والتاريخ. إنه يتحدث عن الزعيم السياسي المتفرّد، ورئيس الحكومة السابق عبد الرحمن اليوسفي. في هذه اللحظة كان لا بدّ من الإقرار بما يلي: لقد جنح الأشعري عن معمارية وفنّ القصة القصيرة إلى طريق آخر موازٍ، هو كتابة المقالة وانطباعات يطغى عليها التذكّر الحزين. تذكر أدونيس ومحمد بنيس واليوسفي أثناء إلقائه خطاب اليوم العالمي للشعر.
لم يراكم محمد الأشعري إنتاجاً غزيراً في القصة القصيرة، أو في القصص بصفة عامة، كما هو الشأن في الرواية. فقد صدرت له مجموعة قصصية واحدة سنة 1992، ظهرت طبعات أخرى لها، كما جرى تدريسها في المدارس الثانوية.
وهذا الشحّ في الإنتاج القصصي جعل الأشعري يكتب نصوصاً قصصية منفتحة على نحوٍ لا محدود، وهو شأن تقوم به الرواية جيّداً، على عالمه المحيط الضيق: فئة المناضلين اليساريين، وفئة المثقفين، وفئة القادة السياسيين. ولعل ذلك يظهر في عناية سارد قصصه بسرد هذه الفئات وسط هذا الواقع. لذلك نجده يقدّم أكبر قدر من المعلومات الكفيلة بجعلنا نفهم خصائص هذه الفئات. وهو يفعل ذلك بغرض جعل عالم التخييل شبيهاً بعالمنا. اليساريون والقادة يمرضون ويدخلون المستشفيات ثم يموتون، والمثقفون يخونون حتى قبل ارتكابهم لخياناتهم المأثورة. والسارد يقدم معلومات ثمينة لسبر غور هذه المصائر والأفعال.
السارد يقدم معلومات ثمينة لسبر غور مصائر وأفعال الشخصيات
لننتقل إلى قصة "حلم ليلة واحدة"، التي هي عبارة عن حوارية طويلة حاول السارد والشخصية التي يحاورها في لباس الفيلسوف العاشق الذي تضيع منه حبيبته في الحلم. ونظراً لهذه الخاصية المعقّدة، ولبنيتها الحوارية الممتعة، تبدو هذه القصة من أنضج قصص "الخميس"، فهذه البنية الثنائية جعلت السرد والوصف معاً يحدثان في استرسال تامّ؛ أي في انتظامٍ وخضوع لترتيبات الحلم والواقع معاً.
فكرة المنافس
يمكن، في قصص "الخميس" تطبيق فكرة "المنافس" كما قام بتفكيكها تيارّي أوزوالد في كتابه "الأقصوصة". إنّ المنافسة تظهر في البنية الثنائية على الخصوص. والمنافس يظهر في القصص أينما ولّينا وجوهنا. يقوم هذا المنافس بوظيفتَين متناقضتين: المساعدة أو التشويش. هذا ما وجده في بنية الحكاية أيضاً فلاديمير بروب في كتابه "مورفولوجية الخرافة". المهم في "المنافس" أن له نفس اهتمامات من يسعى إلى مقارنة نفسه به، ويطمع في الأشياء نفسها. ونجد أيضاً روني جيرار يتناول نفس المفهوم في كتابه "كذبة رومانسية وحقيقة روائية"، إذ أكّد أن المنافس يسعى إلى أن يحوز ما يملكه "الآخر". للمنافس قناعة واحدة: "تملّك" لـ "تكون"، نعطي مثالاً بقصة "النسيج" وهوس التملك الذي يحكم يقظان وفاطمة.
وفي قصة "المشي" تحضر سعاد المتوفية منافسة زوجها الذي ما يزال على قيد الحياة. ماذا سيفعل شخص بمنافس غائب؟ وفي قصة "الخميس" يحضر المنافس أيضاً، في صورة "الشخص المفجوع" في جنازة عالم الاجتماع والسياسي محمد جسوس. وفجأة يوقف السارد حديثه عن هذا المنافس، ليبرز منافس آخر هي السلطة التي ستنافس حزب الاتحاد الاشتراكي ومحاولة حيازتها ما يمتلكه: الديمقراطية. هنا يكمن الدور المزدوج للمنافس "المساعد/ المشوّش". وبعد فقرة أو فقرتين من السرد يعود السارد لـ"الشخص المفجوع" ويكشف هويته، إنه أنيس البحراوي رجل الأعمال الناجح وزميل محمد جسوس في الدراسة في الجامعة الأميركية. وهو يظهر على نفس الحال حين يغيّب الموت عضواً في "جماعة الخميس"، إذ كانوا يجتمعون كل خميس في شكل نادٍ للسهر والمسامرة والبسط. يظهر منافساً حتى أهل الميت في الحزن والبكاء.
* شاعر وروائي من المغرب

أخبار ذات صلة.

6 مشروبات تُخفض مستويات السكر في الدم
الشرق الأوسط
منذ 12 دقيقة