المؤسسة الدينية الموازية... سلطة تنافس السلطة
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
يدافع مسلمون كثيرون عن فكرة انعدام الكهنوت في الإسلام، وأنّ العلاقة بقيت مباشرةً بين الخالق والمخلوق، من دون وسطاء كما في الكنيسة الكاثوليكية، أي أنّ الإسلام لم يكن فيه سلطة دينية تحدّد ما على المسلمين القيام به أو الامتناع عنه. لكنّ هذا الأمر لا يؤخذ على عواهنه من دون تدقيق، فالمؤسّسة الدينية موجودة، ولو بشكل رمزي حتى الآن، بل هي ذات حضور كبير، وتأثير فعّال، في أوساط المؤمنين والمؤمنات، خاصّة بعد التقدّم الهائل في التكنولوجيا وازدياد استخدام أعضاء هذه المؤسّسة (رجال الدين) وسائل التواصل الاجتماعي. وبالرجوع إلى التاريخ، نجد أن بدايات المؤسّسة الدينية قد نشأت في أوائل العصر العبّاسي، خصوصاً مع هارون الرشيد من خلال أهل الحديث. لقد أراد الرشيد توطيد حكمه بشرعية خاصّة ذات بعد ديني أصولي، عندما رأى تنامي نفوذ البرامكة، فقد كان بلاط يحيى بن خالد البرمكي، ومن بعده ابنه جعفر، عامراً بحضور العلماء والفقهاء من المذاهب والملل كافّة، بينما اقتصر بلاط الرشيد على أصحاب الحديث، الذين كانوا يعتبرون أصحاب علم الكلام ومن يخالفهم زنادقةً كفّار. لقد اعتبر أهل الحديث أنّ ترجمة الفلسفة اليونانية والعلوم الأخرى هي كفرٌ، وتمرّدوا في وجه المأمون في العام ذاته الذي أنشأ فيه دار الحكمة، التي أولاها (المأمون) عنايةً خاصّة للترجمة ونقل العلوم من غير الفقه وعلم الحديث. كان الرشيد الخليفة الذي قوّى أصحاب الحديث، فقد خصّص لهم عطاءً خاصّاً من بيت المال، فازداد الإقبال على حلقاتهم، وقويت شوكتهم، حتى أنهم وضعوا قواعد وشروط لتصنيف المفكّرين والعلماء، سمّوها "شروط أصحاب الأهواء"، فكانت معاييرهم تستبعد كل أصحاب الرأي وكل المخالفين لهم في المذهب. استمرّ هذا الحال مع الأمين، وعمّه إبراهيم بن المهدي الذي بايعه أهالي بغداد بالخلافة، ووقف معه أصحاب مدرسة الحديث ضدّ ابن أخيه المأمون، بـ"أمير الكافرين". لكنّ المأمون، ولأنّه كان عالماً واسع الثقافة منفتح التفكير، فقد خفف من سلطتهم رغم أنّه لم يلغها نهائياً، حتى أنه أبقى لهم العطاء، لكنّه فتح بلاطه لمشاركة جميع أطياف المفكّرين من كل المذاهب والتيارات وأصحاب العلوم. استمرّت السلطة الدينية متمثّلة بأصحاب الحديث والفقهاء في الفعل والتأثير، إلى جوار السلطة السياسية ممثّلة بالخلفاء والسلاطين في تاريخنا العربي الإسلامي، زمناً طويلاً في بلاط المأمون، حيث كانت الحوارات والنقاشات على أرفع درجاتها، بدأ الخلاف الذي دار بين المعتزلة وأصحاب الحديث، بين قائل (المعتزلة) بخلق القرآن انطلاقاً من أنّه لا يُعقل التسليم بأنه أزلي موجود في اللوح المحفوظ، لأنّ من شأن ذلك الشرك ونفي وحدانية الله الواحد الأزلي، وبين قائل (أهل الحديث) بأنّ القرآن أزلي مخطوط باللوح المحفوظ، وأنّ من ينكر ذلك إنّما بفتري على صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، وأغلبنا يعرف قصّة محنة أحمد بن حنبل زمن المأمون، ثمّ قصّة نكبة المعتزلة على يد المتوكل. وليس المأمون من بدأ الأمر، بل هو بن حنبل وأتباعه الذين عارضوا منذ البداية ترجمة علوم اليونان العقلية وفلسفتهم. أمّا المتوكل، فكان له شأن آخر مع مخالفيه، وإنّما نكّل بالمعتزلة لا لخصومة معهم، فهو لم يكن مثقّفاً ولا عالماً، ولا حتى مؤيّداً لمذهب ابن حنبل، بل فعل ذلك لأسباب سياسية انتقاماً من سلفه الخليفة الواثق. استمرّت السلطة الدينية متمثّلة بأصحاب الحديث والفقهاء في الفعل والتأثير، إلى جوار السلطة السياسية ممثّلة بالخلفاء والسلاطين في تاريخنا العربي الإسلامي، زمناً طويلاً، بل إنّ ذلك تمأسس بشكل نظامي رسمي مع إحداث منصب شيخ الإسلام بقرار من السلطان العثماني محمّد الفاتح سنة 1451 ميلادية. لعبت مراكز كثيرة في العالم العربي الإسلامي أدواراً مهمةً في تعزيز هذه المكانة مثل جامعة الأزهر في القاهرة وجامعتي الزيتونة والقيروان في تونس. وفي التاريخ القريب والمعاصر، بدأت جماعات سياسية تلعب هذا الدور مستغلّة الدين لفرض رؤيتها على المجتمع باعتبار البنية الثقافية العامّة وطبيعة التدين تقف في صفهّا، فكانت جماعة الإخوان المسلمين أوّل من اتبّع هذا النهج، فرأت في ذاتها على الدوام "الفئة الأصلح" لقيادة الدولة من خلال شعار "الإسلام هو الحلّ". لقد أراد "الإخوان المسلمين" من هذا الشعار احتكار الحقّ في الحديث باسم الله، لأنّهم يستندون إلى الآية الكريمة التي تقول: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وهذه الآية، أو عبارة "إن الحكم إلا لله"، إنما تخصّ في الحقيقة مسائل العبادة لا مسائل الإمارة والحكم والسياسة، وقد سبقهم إلى ذلك في التاريخ الخوارج عندما حاجّوا الإمام عليّ بن أبي طالب، فردّ عليهم بقوله: "إنّما هي كلمة حقّ يراد بها باطل"، فالناس بحاجة لإمارة، والخوارج يسعون إليها بليّ عنق النصوص، كما فعل من بعدهم "الإخوان المسلمين". ثمّة مؤسّسة دينية مستمرّة في الحضور والتأثير، وتمثّل سلطة موازية للسلطات السياسية في أغلب الدول العربية في سورية اليوم، بعد سقوط نظام الأسد، تجد بعض الجماعات الدينية البيئة مناسبةً لإيجاد سلطة موازية للسلطة السياسية، التي هي بالأساس مشابهة لها في المنبت، فالمجموعات التي تجهر بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية، وباتت بكلّ جرأة ترفع راية التوحيد مكان علم الدولة في عدة مدن وسط سورية، وتبيح لأفرادها فرض رؤيتهم على الناس في الشارع، فتتدخّل في ملبسهم ومأكلهم ومشربهم وأنماط حياتهم، إنّما تمارس السلطة من أبوابها الاجتماعية أولاً، ثمّ ستجد نفسها مع الوقت في موقع يسمح لها بمنافسة السلطة السياسية التي تشبهها، وعندها سيكون الصدام، ليس مع باقي المكوّنات المجتمعية التي لا تدين بالإسلام، أو مع الطوائف الأخرى من غير السُّنة، بل سيكون الصدام بين أعضاء الجماعة السُّنية ذاتها، لأنّه صراع سياسي على السلطة يأخذ من الدين رداءً لا غير. تساعد هذه الفئة في عملها مجموعة من شيوخ الدين الذين أصبحوا ظاهرةً مسموعةً قبل عقود من خلال نشر خطبهم وأفكارهم عبر أشرطة الكاسيت، ثمّ مع التطوّر من خلال البرامج التلفزيونية، وأخيراً من خلال منصّات يوتيوب وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي. هؤلاء يشغلون الفضاء العام للمؤمنين والمؤمنات من غير المتخصّصين ولا الدارسين للعلوم الإسلامية، ولا لتاريخ الحضارة العربية الإسلامية. تصبح آراء هؤلاء عند أتباعهم حُجّةً، ويصبح لهؤلاء مع الزمن مريدون وأتباع ومدافعون شرسون، قد يرتكبون العنف في سبيل إعلاء كلمة شيخهم. خلاصة المقال، ثمّة مؤسّسة دينية رمزية إن لم تكن فعلية، مستمرّة في الحضور والتأثير، وتمثّل سلطة موازية للسلطات السياسية في أغلب الدول العربية، وهي في أغلب الأحيان تنصاع للسلطات السياسية، لكنّها تتجرّأ على منافستها عندما تضعف الأخيرة أو عندما تشترك معها في المنبت. هذا الذي قطعت معه أوروبا منذ قرون، ما زال سائداً في بلادنا ويعيق تقدّمنا نحو الدولة الحيادية تجاه جميع الأديان، دولة المواطنة المتساوية التي لا تميّز بين مواطنيها على أيّ أساس، وخاصّة بناءً على أديانهم وطوائفهم ومذاهبهم ومعتقداتهم.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية