
عربي
منذ وقتٍ طويل تسعى إسرائيل لاستغلال التاريخ وعلم الآثار في حربها على الهوية والتاريخ الفلسطينيين، لكنها أخذت منحاً جديداً مؤخراً، خلال زيارة وزير الخارجية الأميركية ماركو روبيو في سبتمبر/أيلول الحالي، إذ صمّمت حكومة الاحتلال زيارته لتسليط الضوء على التاريخ اليهودي المسيحي المشترك حول القدس، في محاولة لربط قاعدة الحزب الجمهوري الإنجيلية بإسرائيل، بحسب صحيفة ذا غارديان البريطانية.
وأعدّ الإسرائيليون برنامجاً "مليئاً بعلم الآثار أكثر من أي شيء آخر"، وفق "ذا غارديان". ففي اليوم الأول اصطحبه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى الحفريات قرب حائط البراق. ثمّ منحه في اليوم التالي شرف تدشين نفق محفور تحت حي فلسطيني، على طول شارع يعود إلى زمن الرومان، ويحمل اسم "طريق الحجاج"، وهو موجود داخل متنزه مدينة داود الأثري الذي بنته منظمة استيطانية إسرائيلية. كان الهدف من الحدثين التأكيد على "يهودية القدس"، وهو ما شدّد عليه نتنياهو، بوصفها "عاصمتنا الأبدية غير المقسمة".
وإلى جانب زوجتيهما رافق روبيو ونتنياهو، القس المعمداني والسفير الأميركي في إسرائيل مايك هاغابي، الذي يعتبر من أبرز المدافعين عن التوسع الإسرائيلي في المنطقة، إذ سبق له إنكار وجود شعب فلسطيني، كما يمتنع عن استخدام مصطلح الضفة الغربية، مستعملاً الأسماء التوراتية: يهودا والسامرة، التي يتبناها اليمين الإسرائيلي لوصف الأراضي المحتلة.
سعى نتنياهو من خلال هذه الجولة إلى حشد مزيد من التأييد الأميركي لمسعى إسرائيل فرض السيطرة الكاملة على مدينة القدس، بدل أن تكون مقسمة إلى شرقية وغربية، كما نصت اتفاقات السلام السابقة بين إسرائيل والفلسطينيين، إذ منذ بداية مسيرته السياسية سعى رئيس الوزراء الإسرائيلي لمنع قيام دولة فلسطينية أياً يكن شكلها، وهو يملك في الوقت الحالي حلفاءً أقوياء داخل الإدارة الأميركية، من بينهم شخصيات بارزة تؤيد ضم الضفة الغربية.
ولإسناد مسعى "الغزو الإسرائيلي الكامل" كحل للصراع في الشرق الأوسط، يقول علماء آثار مستقلون إن نتنياهو وحلفاءه الأميركيين يحاولون صياغة تاريخ منزوع التعقيدات التي تميز أرضاً طالما كانت موضع نزاع ومشاركة عبر آلاف السنين.
وصف روبيو نفق "طريق الحجاج" بأنه "ربما واحد من أهم المواقع الأثرية على الكوكب"، وهو يتبع مسار طريق من القرن الأول يؤدي إلى الموقع المعروف عند المسلمين بالحرم الشريف، وعند اليهود بجبل الهيكل، بحسب جمعية إلعاد الاستيطانية التي أسست موقع مدينة داود الأثري على أرض فلسطينية مصادرة في حي سلون المقدسي.
بطبيعة الحال، لم تأبه إسرائيل لإدانة الأمم المتحدة هذا المشروع واعتباره غير قانوني، كما لم تغيّر إدانة لجنة تحقيق أممية العام الماضي، استخدامها علم الآثار لأهداف سياسية. وقالت اللجنة: "رغم التاريخ الغني والمتعدد لهذا الموقع، فإن الرواية المقدمة في موقع مدينة داود تركز فقط على تاريخه اليهودي… متجاهلة جميع الفترات والثقافات الأخرى".
وأشار رئيس منظمة عمق شافيه الإسرائيلية الأثرية المستقلة، ألون عراد، إلى أن نفق "طريق الحجاج" قد افتتح مرة من قبل، في عهد دونالد ترامب الأول، عندما كسر سفيره السابق لدى إسرائيل، ديفيد فريدمان، جداراً بمطرقة في 2019. وتابع في حديث مع "ذا غارديان: "إن حقيقة أن المستوطنين والإنجيليين وأميركيين يمينيين آخرين وجدوا أنفسهم متوافقين ليست جديدة. لكن هذه المراسم مجرد أثر سيئ، ودليل آخر على أن مشروع مدينة داود الأثري ليست له علاقة لا بالآثار ولا بالتراث".
واتّهم عراد منظمة إلعاد باستخدام أساليب تفتقد للمصداقية، وقال: "علماء الآثار توقفوا عن الحفر في الأنفاق منذ أوائل القرن العشرين. إنهم الآن يحفرون تحت منازل الناس من دون إذنهم، ما يجعل هذا العمل كله علم آثار سيئ"، مضيفاً: "الحفر في نفق يعطيك منظوراً ضيقاً للغاية. وكل عملية الترويج لطريق الحجاج ما هي إلا محاولة لتهويد تراث هذه المنطقة بالكامل. إنه المثال الأمثل لمصطلح الرؤية النفقية".
بينما كان روبيو يقوم بجولته في القدس القديمة، قصفت الطائرات الإسرائيلية أهم مخزن للقطع الأثرية في مدينة غزة، مدمرةً ثلاثة عقود من العمل الأثري. وذلك في استمرار للسلوك الذي اتبعته منذ بدء حرب الإبادة على غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، إذ عمدت إلى قصف وتدمير العديد من المواقع الأثرية والثقافية المحمية، من دون أي اعتبار للقوانين والمواثيق الدولية.
وكانت قوات الاحتلال قد سمحت لعلماء الآثار الفلسطينية والمدرسة التوراتية الفرنسية (École Biblique) التي تدعم الموقع، بثلاثة أيام فقط لإخلاء المستودع قبل قصفه. بالتالي أخرجت بعض القطع في قافلة شاحنات واحدة، لكن العديد من القطع تعرضت للدمار. وقال مسؤول في المدرسة: "لم نتمكن من العودة لمهمة ثانية بسبب نقص الشاحنات والأيدي العاملة، وبالأساس بسبب الخطر، لذا فقدنا بعض القطع". إضافةً إلى ذلك تضرّرت بعض القطع نتيجة نقلها في شاحنات مكشوفة، وهي الآن في موقع سري، لكنها مكشوفة للعوامل الطبيعية.
واستولى الجيش الإسرائيلي على الموقع مطلع العام الماضي، وسمح لموظفي سلطة الآثار الإسرائيلية بدخوله وتفحصه في انتهاك للقانون الدولي، وحالت إثارة الموضوع دولياً دون سرقة الآثار الموجودة فيه.
وادعت إدارة كوغات العسكرية الإسرائيلية، المسؤولة عن الأراضي المحتلة، أنها سهّلت عملية الإنقاذ، ووصفتها بأنها "نقل لقطع أثرية نادرة وفسيفساء وخزف يخص المجتمع المسيحي في غزة". لكن الحقيقة أن هذه القطع تعود إلى عصور متعددة، مرتبطة بحضارات وديانات مختلفة، بحسب عراد، الذي اعتبر أن الهدف "مرتبط باستمرار سعي إسرائيل للحفاظ على علاقاتها الخارجية مع الكنيسة الإنجيلية المسيحية في الولايات المتحدة".
وحوّلت إسرائيل علم الآثار من أداة لاكتشاف الماضي إلى سلاح سياسي، توظّفه لتزييف الحاضر، ولتحقيق هدفها بالاستيلاء على ما تبقى من أراضٍ فلسطينية.

أخبار ذات صلة.

6 مشروبات تُخفض مستويات السكر في الدم
الشرق الأوسط
منذ 12 دقيقة