قراءة في تفسير توماس براك لـ"عقيدة ترامب": التوافق أو الخضوع
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
عبر ما اصطلح بتسميته "عقيدة الرئيس" presidential doctrine تحدد الولايات المتحدة الأميركية بوصلة الأهداف والمواقف والتوجهات الاستراتيجية لما يفترض أنه سياستها الخارجية، أو هكذا ستكون إن كنت تراها بمنظار الجالس في البيت الأبيض، بينما وجهها الآخر أو ما يهمك منها، هو ذاك التأثير المهيمن والمتمدد إلى أدق النقاشات ومن ثم القرارات الداخلية في بلدك، وقد كان لمن سبقوا الرئيس الحالي، إسهامات جادة يسري عليها التعريف السابق، مثل مبدأ "عدم التدخل" المُعلن أمام الكونغرس في عام 1823 لصاحبه الرئيس جيمس مونرو، أو "احتواء الاتحاد السوفييتي" لهاري ترومان في عام 1947 وأيزنهاور و"الرد النووي الشامل" وبوش الابن و"الحرب الاستباقية" وأوباما و"القيادة من الخلف". النماذج السابقة وغيرهم من الرؤساء، يجمع مبادئهم أو عقائدهم سمها كما شئت، إطار عمل واضح يقوم على متى وأين ولماذا تتدخل أميركا في العالم، في مواجهة ما تصفه بالتهديدات والتعقيدات الدولية وفق منطق دولة المؤسسات ونموذج يهدف إلى ترسيخ حالة من اليقين السياسي والاقتصادي، على العكس مما يجري حاليا في عهد دونالد ترامب، وسياسته الخارجية المتباينة وغير المتوقعة اعتمادا على حدسه وتفضيلات الحب والكراهية المتبدية في اختياراته الإدارية المتسمة بالفردية والزبائنية ولعل توماس برّاك المبعوث الخاص إلى سورية، أفضل تجسيد حي لتلك العقلية، وهذه الطريقة من التفكير التي عبر بوضوح في حواره الأخير مع سكاي نيوز عن قواعد عملها ورؤيتها لحاضر منطقتنا وما ينتظرها في المستقبل. لا ينطق براك عن الهوى، إن هو إلا مترجم لأفكار (إن جاز اعتبارها كذلك) ترامب الشعبوية، وهو خير من يتصدى لتلك المهمة العويصة، إذ ثمة تقاطعات عدة تجمع الرئيس ومبعوثه، صداقة منذ الثمانينيات وصفقات عقارية ورئاسة لجنة تنصيبه في عهدته الأولى عام 2016، والأهم أنه مثله يدور مع المصلحة الشخصية أينما دارت، باختصار هو قناة وصل بين المال والسياسة، فإذا أردت الرئيس عليك بالمرور عبر براك الترامبي الجمهوري، فكان أول سؤال للمحاورة عن  ما هي "عقيدة ترامب في الشرق الأوسط"؟ وأبرز ما في جاء في شرحه لها: "عدم التضحية بأي أرواح أميركية أو غزو دول أخرى والتركيز على مكافحة الإرهاب والتعاون مع جيراننا لكن إسرائيل قصة مختلفة لأنها حليف "قيم". وضوح ومباشرة يؤكدان المؤكد، فليس كل الحلفاء سواء أمام الراعي الأميركي وإنما طبقات بعضها فوق بعض، حماية كاملة لأعلاها، ومشروطة لما يليها بـ"التوافق" أو محاذاة رغبات تل أبيب، وهو قيد سيتكرر كثيرا لدى حديثه عن طبيعة "المرحلة الانتقالية" التي تمر بها المنطقة بما في ذلك من ارتباك ووضع معقد جدا حسب وصفه، لذا فإنه لا بعرف نهاية اللعبة، أي ما نمر به حاليا، ما يعني أن الحتمية التي يعتقدها البعض في قضايا مثل التهجير والهيمنة الإسرائيلية ليست في محلها، كل شيء قابل للتبدل إما للأسوأ أو الأفضل، فـ "الجميع يقاتلون من أجل الشرعية، وليس الحدود بهدف الهيمنة، والسلام مجرد وهم، لأن طرفا يريد الهيمنة، بالتالي على الطرف الآخر الخضوع، وفي هذا الجزء من العالم كلمة الخضوع لا يوجد لها مرادف دقيق في اللغة العربية، لا يمكن أن يلتفوا حولها، والازدهار الاقتصادي (لمن؟) هو الحل الوحيد". هذا هو جوهر العقيدة الترامبية، إنه عصر المال السياسي وبالتأكيد سيصب أولا في مصلحة ترامب والقلة المحيطة به مثل براك، فـ"الرئيس لديه خطة في ذهنه" (كلنا رهائن إرادته السامية!)، و"ما يجري من قتل يجب أن يتوقف"، لكنه مع ذلك في الوقت ذاته، وبنفس الأداء الترامبي المتناقض "لا يجد فائدة في دعم أميركي لوقف إطلاق النار لأنه لن ينجح"، بالتالي ليس أمام كل من في المنطقة سوى التوافق أو Alignment مع إسرائيل، هذه الكلمة التي أعادها مرارا وتكرارا، بما يعني أنه ما من سبيل سوى اتفاق قسري على العمل معها وفق مصالح أو أهداف مشتركة ضمن تحالف يعني اصطلاحا الخضوع لكونها شرطي المنطقة لتقوم بدور المندوب الأميركي السامي، وهكذا فقد رأى أن محاولة حزب الله التقرب من السعودية "مجرد مزحة"، فالمطروح ترامبيا بعدما تنتهي حرب غزة هو أن "تكون إسرائيل في المركز مرة ثانية وكذلك السعودية، التي لديها عدد سكان كبير 30 مليونا، وقاعدة محافظة تجعلها تتجه إلى هذا المسار ببطء بينما الإمارات لأن لديها عدد سكان أقل ذهبت مبكرا". "عالم ما بعد 7 أكتوبر 2023 ليس كما قبله، كل شيء قد تغير في الشرق الأوسط"، يقول براك، والخطير في ذلك تأكيده أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو: "سيخبرك أنه لا يهتم بالحدود ولا بالخط الأحمر ولا الأزرق ولا الأخضر ، إذا شعر أن حدوده أو شعبه مهددان فسيذهب إلى أي مكان ويفعل أي شيء، والجميع يعرف أن هذا سيحدث، نقطة على السطر"، هذا إقرار برسم القادة والزعماء العرب، وللأسف كانوا متأخرين في فهمه، ولم يتأكدوا منه سوى بعد اعتداء إسرائيل على الدوحة، لتنشط بعدها التحالفات العسكرية (باكستان-السعودية) وتعود المناورات الحربية المتوقفة (تركيا-مصر) ومن هنا يمكن فهم ما قاله براك من أن: "الدافع لدى حزب الله لترك سلاحه صفر خاصة عندما تهاجم إسرائيل الجميع، سورية ولبنان وتونس، لذا حجتهم بحماية اللبنانيين من إسرائيل تصبح أقوى وأكثر تأثيرا، فإسرائيل لن تنسحب من النقاط الخمس، كما أن حزب الله يعيد بناء قوته". أما مسؤولية نزع هذا السلاح فتقع على عاتق الحكومة اللبنانية، :"هذا ليس دورنا. لكن البعض يريدون من الرئيس ترامب أن يرسل قوات المارينز لحل كل شيء. هذا لن يحدث، القرار يجب أن يأتي من الحكومة اللبنانية"، ولكنه مع هذا يرفض تسليح الجيش متسائلا :"هل نسلحهم ليقاتلوا إسرائيل؟ أنت تسلحهم ليقاتلوا أبناء شعبهم. الحزب يشكل عدوا لنا، تماما كما إيران، نحن بحاجة إلى قطع رؤوس هذه الأفاعي ومنع تمويلها. هذه هي الطريقة الوحيدة لوقف حزب الله، ولن تقوم حرب أهلية لأن حزب الله في أضعف حالاته"، وهكذا ترى إسرائيل الحل، أي أنهم يتجهون نحو ما يعتقد براك أن فيه تسوية للمشكلة بأكملها، :"السيطرة على غزة وحزب الله والحوثيين، ولن يكون هذا مثمرا إذا لم تتم السيطرة، على النظام الإيراني، وطالما لم يحدث هذا، إسرائيل ستواصل قصف الحزب يوميا". اللافت أن الرجل الذي تجده كل يوم في سورية وتركيا وغيرها من دول المنطقة عندما سئل عن الثقة في هذه الدول، رد أنه :"بصراحة في هذا المجال لا أثق في أي منهم، مصالحنا لا تتوافق وكلمة حليف خاطئة، وليس هذا مع النظام السوري فقط، بل مع الجميع في الشرق الأوسط، وحتى إسرائيل هناك معايير، وقضايا نتفق فيها وأخرى نختلف فيها ولا يوجد اتفاق شامل، ولا يوجد الولايات المتحدة الإسرائيلية ولا الولايات المتحدة الخليجية، أو الولايات المتحدة التركية، نبحث عن التوافق عندما تفرضه الضرورة والمصلحة وعندها نتقارب ولكن الثقة العمياء في أي شخص، لا أعتقد أن أحد امتلكها يوما وهي موجودة بالكاد بين ولايات أميركا نفسها". هنا من المهم الإشارة إلى اللغة الاستعمارية وخطاب الإكراه، فيما قاله بأن: "ترامب "سيجبر" هذه المنطقة على الوصول إلى مكان وأشياء لم ترها منذ 80 عاما، وهذا في ظل أن نتنياهو لن يتراجع عن أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية"، يعني أن كل ما يجري في المؤسسات الدولية من اعترافات متوالية لا اعتبار أميركيا ولا إسرائيليا له. وفي المحصلة ينطق براك بلسان ترامب وزبانيته، لا خيارات اليوم، إما التوافق والمحاذاة بصفنا وإلا الخضوع. لكنه ورئيسه فيما يعتقدانه لا يضعان في حسبانهما الشعوب العربية وما تعتقده، وأعلم أن اليأس قد بلغ بنا مداه، لكن شواهد التاريخ تخبرنا أن ردود فعل منطقتنا غير متوقعة، على عكس حكامها وقادتها، والخياران المطروحان يعنيان التنكر لتضحيات وحقوق الفلسطينيين ومعهم الأغلبية الكاسحة، وهؤلاء لن يقبلوا مزيدا من الإذلال بعد كل هذه الدماء المبذولة في ظل عقيدة جامعة وراسخة في الحمض النووي الثقافي لمكونات المنطقة الدينية والعرقية والسياسية، رسالتها تقطع مع التوافق أو الخضوع للجلاد فلا تؤمن إلا بالثأر والنصر أو الشهادة والتضحية. 

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية