الاعتراف بدولة فلسطين بين الوهم والحقيقة
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
تحوّل الاعتراف بدولة فلسطين رهاناً تتسابق على خوضه الدول الغربية، ما يدعو إلى البحث في دلالات هذا الاعتراف وتداعياته. فقد أعلنت كل من بريطانيا وأستراليا وكندا والبرتغال وفرنسا رسمياً اعترافها بدولة فلسطين، واعتبر رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون (22/9/2025) من منبر الأمم المتحدة، في خطابه في مؤتمر حلّ الدولتَين في نيويورك (ترأسه فرنسا والسعودية)، الاعتراف بالدولة الفلسطينية الحلّ الوحيد لتحقيق السلام، لكنّه اعتبر، في الوقت نفسه، أن الدولة الوليدة يجب أن تكون منزوعة السلاح، وطغى على خطابه منهج الكيل بمكيالين، والرغبة المبطّنة في إرضاء إسرائيل عبر شيطنة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإدانتها، من دون أن يُشفع ذلك بإدانة صريحة للمجازر والإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزّة، وكأنّ المرجو من إقامة الدولة المزعومة تحقيق السلام للكيان المحتلّ والأمان والرفاه لشعبه في المقام الأول، قبل إنصاف الفلسطينيين وإنقاذهم من الفناء والزوال. اعترفت 151 على الأقلّ من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة بدولة فلسطين. وهو رقم قياسي لم يكن لأحد قبل "7 أكتوبر" (2023) أن يتوقّعه. وتسارعت وتيرة الاعترافات بشكل ملفت للانتباه، ومثير للجدل، ولا سيّما أنه يصدر عن دول غربية لها وزنها السياسي والاقتصادي، وتُعتبر من حلفاء الكيان الإسرائيلي وشركائه المخلصين، ولطالما دافعت عنه وزوّدته بكلّ ما يحتاجه من دعم ومساندة ليواصل حربه على سكّان غزّة منذ عامَين، من دون كلل أو هوادة. المتمعّن في هذا "التحوّل الجذري" في المواقف الغربية، اعترافاً بدولة فلسطين، والدعوة إلى الوقف الفوري للحرب في غزّة، يلاحظ حتماً أنه ليس وليد صحوة ضمير، بل هو نتاج ضغوط فعلية، وإحراج باتت معالمه تتكشّف تدريجياً عير التصريحات، ثمّ عبر الأفعال المحتشمة والرمزية، التي لم ترتقَ بعد لما يحصل في غزّة من دمار وخراب وإبادة، فهذه الدول تعاني من ضغط متزايد من شعوبها، ومن رأي عام بدأ يتكوّن داخلها، مفاده أن ما ترتكبه إسرائيل جرائم حرب، وجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم إبادة جماعية، تتحمّل مسؤوليتها أخلاقياً وإنسانياً الدول الغربية. تعيب هذه الشعوب على حكوماتها صمتها وتواطؤها، وتعتبر ما اتخذته من إجراءات لعقاب إسرائيل وردعها وحملها على إنهاء حربها وعدوانها على الشعب الفلسطيني غير كافٍ، وأنه لم يتجاوز، في بعض الأحيان، حدود التصريحات المندّدة، ولم يبلغ مرحلة الردع الفعلي لهذا الكيان المخلّ بالتزاماته، والمُنتهِك للمواثيق الدولية. فلا وجود لإجراءاتٍ فعليةٍ ملموسة بوقف المساعدات أو تعليق اتفاقات الشراكة أو الإمدادات بالسلاح والعتاد أو المبادلات التجارية والاقتصادية، بل تكاد ازدواجية القول والفعل، وثنائية الخطاب، والكيل بمكيالين، تكون سياسةً ممنهجةً لتعامل الدول الغربية مع الحرب في غزّة... فقول مندّد لا يُستتبَع بفعل رادع، بل يناقضه دعمٌ ومساندةٌ وتواطؤٌ في الخفاء، هو قمّة النفاق والزيغ عن القيم الإنسانية التي تبنّتها المجتمعات الغربية منذ الحرب العالمية الثانية، والحكّام في الغرب يستمدّون شرعيتهم من شعوبهم، ويخشون معاقبتها لهم عبر صناديق الاقتراع، وبآليات الديمقراطية التمثيلية والمباشرة، ولذلك يحسبون ألف حساب للمظاهرات الشعبية الحاشدة التي تخرُج في بلدانهم داعيةً إلى تحرير فلسطين ووقف الإبادة التي تُمارس على شعبها، ويأخذون هذه المظاهرات على محمّل الجِدّ، حين يعدّون سياساتهم ويصوغون مواقفهم ويضبطون إجراءاتهم العملية. ولذلك توجّهت معظم الدول الغربية إلى الاعتراف بدولة فلسطين، وإدانة المجازر المُرتكَبة في أرضها خشيةً من عقاب شعوبها لها، وتعبيراً عن إرادتها، واستبطاناً لتطلّعاتها وتوقّعاتها ولو ظاهرياً. جزمت محكمة العدل الدولية بوجود معالم إبادة جماعية في غزّة الدلالة الثانية لهذه الموجة من الاعترافات هي الخوف من العزلة الدولية في خضمّ رأي عام دولي مساند للقضية الفلسطينية ورافض للحرب على قطاع غزّة، فمنظّمة الأمم المتحدة، التي تعتبر تقارير هيئاتها الأكثر موثوقيةً ومصداقيةً، أعلنت رسمياً وجود أدلّةٍ راسخةٍ على إبادة جماعية، وأقرّت بوجود مجاعة في غزّة، ووثّقت الأرقام المهولة من الشهداء والجرحى من المدنيين، وأغلبهم من النساء والأطفال، وجزمت محكمة العدل الدولية بوجود معالم إبادة جماعية في غزّة، وحذّرت إسرائيل من التمادي في استهداف المدنيين وتدمير أسس (ومقوّمات) الحياة فيها، فكيف لهذه الدول الغربية أمام كل هذا السيل الصادم والجارف من التقارير والقرارات والأعداد المرعبة أن تتملّص من مسؤوليتها والتزاماتها الدولية، ولا سيّما تلك المنبثقة من الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية الموقّعة في 1948، ومعاهدة روما المبرمة في 1998، والمُحدِّثة لمحكمة الجنايات الدولية، والمُقِرّة للمسؤولية الجزائية الفردية لمرتكبي الانتهاكات الخطيرة والجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني؟ كيف لها أيضاً أن تتنكّر لإرثها الإنساني المرتكز على احترام الحريات والحرمة الجسدية والكرامة البشرية وإحلال السلم والأمان، وهو إرث أسّست به كياناتها الدولية، واعتبرته مصدر إلهامها وشرعيتها، ومحدّداً لعلاقاتها وسياساتها الخارجية، بل لعلّ هذه الدول فزعة وخائفة من أن ترى مسؤوليها وساستها يدانون دولياً بفعل تواطؤهم مع مرتكبي الإبادة الجماعية، أو مشاركتهم فيها بصورة غير مباشرة بالتزويد بالسلاح وبالتستّر عن المجرمين وبتبرير جرائمهم ووحشيتهم، وهذا الأمر غير مستبعد من الناحية القانونية على مستوى القضاء الداخلي في مرحلة أولى، ثمّ عبر اللجوء إلى القضاء الدولي في مرحلة ثانية. على سبيل المثال، نظرت المحكمة العليا في لندن في دعوى قضائية رفعها نشطاء حقوقيون ضدّ الحكومة البريطانية، يتهمونها بانتهاك القانون الدولي على خلفية استمرارها في تصدير أسلحة إلى إسرائيل استخدمتها في عدوانها على قطاع غزّة. اعتراف حلفاء إسرائيل بدولة فلسطينية هو حماية لإسرائيل من نفسها، ورغبة محمومة في فكّ العزلة عنها يمكن أن تستخدم هذه الأعمال المنسوبة إلى مسؤولين في حكوماتٍ غربيةٍ من خصومهم السياسيين، ومن منظّمات داعمة لحقوق الإنسان تتبعهم وتدينهم قضائياً، ناهيك عن أن القانون لا يعاقب مرتكب جريمة الإبادة الجماعية فحسب، بل تمتدّ المسؤولية الجزائية إلى المشاركين فيها، فالمادة الثالثة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها تنصّ على أن التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية، والتحريض المباشر والعلني عليها، ومحاولة ارتكابها والاشتراك فيها، موجبة أيضاً للعقاب. يجعلنا هذا الأمر ننفي فرضية صحوة الضمير الأوروبي في ما يتعلّق بقادة الدول الغربية، فهم لم يحيدوا فعلياً عن تبعيتهم للوبي الصهيوني، ولا عن إحساسهم بمسؤوليتهم التاريخية إزاء الكيان المحتلّ الذي يذود عن مصالحهم في الشرق الأوسط، ولا ينقطع إحساس بعضهم بالذنب تجاه المحرقة اليهودية، إذ التكفير عن الذنب مبدأ راسخ لا تراجع فيه ولا يتقادم بمرور الزمن. يبدو أيضاً أن الاستعراضات التي يقومون بها لوقف الحرب والاعتراف بدولة فلسطين وإدانة الكارثة التي تحدث في قطاع غزّة، مع تجاهل تحميل المسؤولية المباشرة للكيان المحتل عنها، والتأكيد باستمرار على إدانة "حماس" لما ارتكبته في "7 أكتوبر"... يبدو ذلك كلّه، في حقيقته، حمايةً لإسرائيل من نفسها، وانحيازاً تامّاً لها، ورغبةً محمومةً في فكّ العزلة الدولية عنها، لأن الحرب التي تشنّها على شعب أعزل جعلتها منبوذةً من العالم بأسره، ولو تواصل الأمر على هذا الحال من التهوّر الإسرائيلي، فقد يستحيل تداركه، وقد يؤول إلى زوال إسرائيل نفسها التي تواجه أزمة وجود حقيقية، ما يجعل حلفاءها يثيبونها إلى رشدها، وينبّهونها إلى ما يفعله فيها اليمين المتطرّف وأتباعه، ويمدّون لها طوق نجاة لانتشالها من المستنقع الذي غاصت فيه. فالاعترافات بدولة فلسطين في محافل دولية تبطن الرغبة في التغطية على ما يحصل في غزّة، وفي لفت أنظار العالم إلى مسائلَ ثانويةٍ واستعراضيةٍ تلهيه عمّا يحدث هناك من مجازر وتجويع ودمار وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون تكفيراً عن عجز أمام إيقاف الحرب وإنقاذ الفلسطينيين، وكأنهم يقولون لهم: لقد اعترفنا لكم بدولة، وما عليكم إلا أن تصبروا وتجاهدوا وتتحلّوا بالحلم إلى أن نتمكّن من وقف الحرب قبل أن تبيدكم عن بكرة أبيكم. فلو صدرت الاعترافات في ظروف عادية، لا في زمن إبادة وتهجير، لكان من الممكن الإشادة بها والتهليل برمزيتها واعتبارها فوزاً ونصراً للقضية الفلسطينية. أمّا ونحن في مثل هذا الحال المأساوي، فما الذي سيجنيه شعب يُقهر ويُباد من اعترافات رسمية فولكلورية بدولتهم التي لا تملك من مقومات الدولة شيئاً يستحق أن يذكر. والحال أن مطلب الشعب الفلسطيني، الأوحد والملحّ، في الوقت الراهن، الكفّ عن سفك دمائه واستباحة كرامته وإطعامه حتى لا يفنى جوعاً. تبطن الاعترافات بدولة فلسطين في محافل دولية الرغبة في تغطية ما يحصل في غزّة لذلك يفترض أن نتساءل عن تداعيات هذه الاعترافات وتأثيرها. ولعلّ السؤال الجوهري في هذا السياق: هل الاعتراف بدولة فلسطين سيفضي حتماً إلى اعتراف فعلي بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والتحرر من الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني؟ وما الدولة التي يراد إنشاؤها وفي أيّ حدود وأراض ستُشيّد؟ ما نمط الحكم الذي سيُقام فيها؟ وما هي العلاقات التي ستربطها بدول الجوار، وخاصّة بدولة الاحتلال؟ الطرفان المبادران بنفض الغبار عن حلّ الدولتَين (فرنسا والسعودية) يؤكّدان أن الدولة الوليدة يحب أن تكون منزوعة السلاح، حتى لا تهدّد أمن إسرائيل واستقرارها (وماذا عن أمن الفلسطينيين؟)، ويجب أن تُقصى "حماس" من حكم تلك الدولة، وأن يُنزع سلاحها، وبالتالي، يجب أن تكون الأطراف المرشّحة لحكم الدولة مسالمةً ومهادنةً، تلتزم بالامتناع عن رفع السلاح ضدّ الكيان الإسرائيلي، وتقيم علاقة سلمية معه، لكن هل فكّر المبادرون بالمقترح في الأرض التي ستقام عليها هذه الدولة وقد جرّد الاحتلال الفلسطينيين من جزء مهمّ من أرضهم بمفعول الضمّ والاستيطان، فماذا تبقّى من الأرض حتى تقام عليه دولة مستقلة وذات سيادة؟ في ما يتعلّق بالسيادة تحديداً: كيف يمكن ضمان سيادة هذه الدولة على شعبها وفي أرضها، وبسط نفوذها عليهما من دون سلاح أو أنظمة دفاع مسلح؟... ستكون، إذن، دولةً ضعيفةً مستباحةً منزوعة الإرادة، لكن الكيان الإسرائيلي وقادته يعلنون رفضهم حتى قيام دولة فلسطينية بهذه المواصفات المُهينة لنضال الشعب الفلسطيني وجهاده التاريخي، بل أعلنوا قراراتٍ انتقاميةً بضمّ أجزاء أخرى من الضفة الغربية للتنديد بالاعترافات بدولة فلسطين، التي اعتبروها نصرةً لإرهاب حركة حماس، ومكافأة لها. ولا يخفى على أحد رفض الكيان الاسرائيلي الصريح لحلّ الدولتَين واستباحته، لا الأراضي الفلسطينية فقط، بل كذلك أراضي دول مجاورة أخرى، وتوسّعه على حسابها، بتعلة الحفاظ على أمنه. فكيف يكون حلّ الدولتَين ممكناً (ووجيهاً) والدولة القائمة بالاحتلال رافضة له، ويستشيط قادتها غضباً وتهديداً ووعيداً كلما طرح الموضوع عليهم؟ حين تتجرّد الدول الغربية من أخلاقها والتزاماتها، ومسؤولياتها التاريخية أمام شعب يباد من طرف أقرب حلفائها، وتتشدّق بالاعتراف بدولة من دون توفير مقومات وجودها، فلا طائل من انتظار دعم حقيقي منها لإيقاف العدوان على غزّة، لا سيّما أن إرادتها وقرارها في ما يتعلّق بالشرق الأوسط مرتهن بقرار الولايات المتحدة، وفي تبعية دائمة له، ولا مفرّ للشعب الفلسطيني من مواصلة نضاله بكل السبل المتاحة لإقرار حقّه الطبيعي والمشروع في تقرير مصيره، ويكفيه نصرة الأحرار من شعوب العالم له.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية