
عربي
يحدث رحيلُ كلوديا كاردينالي (23 سبتمبر/أيلول 2025) بعد خمسة أشهر وأسبوع واحد على احتفالها بذكرى ميلادها الـ87 (15 إبريل/نيسان 1938). هذا غير عابر. هذا تفصيلٌ غير ثانوي، لأنّه يطرح سؤال الشيخوخة لأناسٍ يملأون المشهد العام بأعمال وحكايات ولحظات فارقة، وبخفايا تتكشّف تدريجياً أحياناً، أو لا تتكشّف نهائياً. هذا عمرٌ شاهدٌ على مسارات وانقلابات وإخفاقات، كما على ابتكارات تدفع العالم، أو أفراداً منه على الأقلّ، إلى الأفضل والأجمل والأعمق.
رحيلها غير مفاجئ. فالأعوام، التي يُظنّ أحياناً أنّها ثقيلةٌ على المرء، تبدو، وإنْ لوهلةٍ، وقتاً لتأمّل أو تذكّر، أو ربما لفراغٍ يمنح سكينة أو بعضها، أو تمريناً على صمتٍ دائم وغياب غير مُنتهٍ. والانتظار قاسٍ غالباً، والإدراك الواعي بأنّ الموت مُقبلٌ "بعد قليل" أقسى من انتظاره. أمْ أنّ هذا كلّه مجرّد "تأبين"، في لحظة وداع، بينما الراحلة، في أعوامها الأخيرة أو أكثر، غير عابئة بموتٍ، وغير منتظرة إياه، فمن يملك تاريخاً كامتلاكها مثله لن يكترث ببقايا عمرٍ، طالما أنّ العمر معبّأٌ باختبارات وعلاقات واشتغالات وانفعالات، كثيرٌ منها تصنعه كاردينالي بوعيّ ورغبة، ولعلّ بعض هذا يحصل من دون توقّع، أو سعي إليه.
أمّا العمر، فواضحٌ في جسدٍ، لن تتردّد كلوديا كاردينالي عن تعريته من كلّ ثيابٍ، باستثناء لباس البحر، في لقطات من "والآن... سيداتي سادتي" (2002) للفرنسي كلود لولوش. حينها، تبلغ الممثلة الإيطالية 64 عاماً فقط، ورغم هذا يظهر ترهّلٌ وشيخوخة في جسدٍ، يفتن العالم أعواماً مديدة، زمن شبابٍ ساحرٍ لامرأة تبدأ عارضة أزياء، بعد ولادتها في تونس، ذاك البلد العربي الأفريقي الذي تعود إليه مراراً، وإحدى عوداتها مرتبطة بـ"جزيرة الغفران" (2022)، للتونسي رضا الباهي، مُتحدّية فيه، مُجدّداً، عمراً يتقدّم، فتكشف بعض ترهّل الجسد، وكثيراً من سحرٍ تمنحه لشخصية في أداء يقول إنّ العمر، وإنْ يتقدّم وهذا لا فرار منه، غير مُتمكّن من تغييب جمال تمثيل لمن يصنع من جماله تمثيلاً، يُصبح حياةً وشغفاً وعيشاً.
رغم أنّ الفيلمين هذين غير بالِغَين مرتبةً سينمائية، كتلك التي تبلغها أفلام كثيرة لها مع سينمائيين ماهرين في ابتكار الأفضل والأجمل والأعمق، وللمخرِجَين لولوش والباهي حضورٌ فاعل وإنْ في أفلامٍ أهمّ؛ رغم هذا كلّه، تُضفي كلوديا كاردينالي بهاءً، يُكمِل النصّين السينمائيين، ويساهم في تحويلهما إلى متتاليات بصرية، تروي في الأول (والآن... سيداتي سادتي) حكاية "لصٍ نبيل على طريقة أرسين لوبين"، يلتقي شابّة مغنية (جاز)، ترغب في اختبار مختلفٍ في حياتها، فتتحوّل العلاقة إلى مسرحٍ تنكشف على خشبته تفاصيل ذات وروح وانفعال. بينما في الثاني (جزيرة الغفران)، تستعيد تلك المتتاليات البصرية ذاكرة فردية وتاريخاً جماعياً في تونس، منذ عام 1952، عبر لقاء عائلي تتداخل فيه مصائب ماضٍ وملذّاته بنوعٍ من سكينة راهنٍ، يجهد في الاغتسال من ذاك الماضي.
غير أنّ كلوديا كاردينالي أعتق من فيلمين، تشارك فيهما لحاجةٍ إلى التمثيل، أو لرغبةٍ في عمل، أو لتأكيد حضورٍ يصعب نسيانه، وإنْ في غيابها. فالبدايات (أواخر خمسينيات القرن الـ20) تفتح لها دروباً سينمائية، تكتسب منها مهارة أداءٍ، يُفترض به أنْ يوحي بكونه تمثيلاً، فإذْ بها تجعله حيوياً وعفوياً، يقترب أحياناً من البراءة. تنويعات اشتغالاتها (وسترن سباغيتي، رومانسيات، مواضيع اجتماعية، إلخ) تمرين دائم على إظهار المخبّأ في تربيتها الفنية، المنبثقة من عملٍ لا من دراسة وتعمّق في الدراسة. فجمالها عاملٌ أوّل، يُكسبها شهرةً لا علاقة لها بالتمثيل، وهذان الجمال والشهرة يدفعانها إلى مهنةٍ، تبرع فيها إلى اللحظة الأخيرة.
يُقال إنّ مُشاركتها في "الحلقات الذهبية" (1956، 18 د.)، للفرنسي رونيه فوتييه، تُثير انتباه المصري عمر الشريف، الذي يُقنع جهات إنتاجية لاختيارها في دور عاملةٍ في منزل فنانة عربية، في "جحا" (1959)، للفرنسي أيضاً جاك باراتييه، الذي تُمثِّل فيه إلى جانبه (الشريف). وإذْ يعاين الأول أحوال تونس بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، فإنّ الثاني يختار القاهرة، زمن رخائها الاجتماعي والاقتصادي والحياتي، ليروي حكاية عجوز يقترن بشابّة جميلة، ستشعر سريعاً بملل تلك الحياة الزوجية، ما يدفعها إلى أحضان شابٍ فقير، تُغرم به لشدّة ما تشعر بأنّه ملائم تماماً لها. كأنّ بدايات كاردينالي محكومةٌ بأدوار عاملة فقيرة، تُقيم في مدنٍ عربية، في تأسيسٍ لمستقبلٍ تنتقل فيه من بلدٍ إلى آخر، أي من سينما إلى أخرى، لاكتساب مهارات، ولإدراك ثقافات، ولاختبار أنماطٍ "ملائمة لها تماماً".
أمّا تعداد أفلامٍ لها، تُنجزها في بقاعٍ مختلفة من العوالم السينمائية، فشبه مستحيل، لوفرتها. فكاردينالي، التي تُنتخب "أجمل إيطالية في تونس" عام 1957 (بعد عامٍ واحد على استقلال البلد)، تمتلك ـ كغيرها من مجايلاتها الممثلات، تحديداً صوفيا لورين (1934) وجينا لولوبريجيدا (1927 ـ 2023)، إضافة إلى بريجيت باردو (1934) ـ تلك الطاقة الأدائية على منح كلّ شخصية، وإنْ يكن الفيلم عادياً وغير مُجدِّدٍ، حيويةَ حضور، وبهاء إطلالة أمام الكاميرا. والجمال، المولودة فيه تلك الممثلات وغيرهنّ القليلات، يجذب عيون مخرجين كثيرين وقلوبهم وانفعالاتهم، لكنّه يفرض عليهم ما يتجاوزه بوصفه جمالا محضا: أداءٌ باهر في كلّ الأدوار.
