
أظهرتُ في كتابي الصادر أخيراً "ضدّ الليبراليَّة الرّمزيّة: دعوة إلى علم اجتماع تحاوري" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) بوضوح في كتابات عديدين من باحثي العلوم الاجتماعية ومنتجي المعرفة الآخرين (صحافيين، أكاديميين، مؤثرين، إلخ)، كيف أسّسوا لمنظور سميتُه المنظور الليبرالي الرمزي. حيث شوّه هؤلاء الليبراليون مفهوم العدالة عبر تقليص أهمية العدالة الاجتماعية والمبالغة في التركيز على كونية حقوق الإنسان، بما يفضي إلى فرض تصوّر واحد لمفهوم "الخير"، والذي يفترض أن يكون متعدّداً. ونعني بـ"الخير" مجموعة من الغايات النهائية التي تحدّد تصوّر الشخص لما له قيمة في الحياة، ويتضمن ذلك تفضيلات الفرد ورغباته المتعلقة باللباس، والطعام، واستعمال وقت الفراغ، ومثل الشخصية، والصداقة والعائلة، ... إلخ. وبينما نجد الليبراليين الرمزيين في دول الشمال الكوني، فهم أيضاً في الجنوب الكوني؛ ما يعكس شكلاً من أشكال التقارب العالمي، سيما في بيئات ما بعد الاستعمار.
بودّي أن كيفية نظر الليبراليين الرمزيين إلى النظام السوري ما بعد الأسد، حيث كشف ذلك الكثير عن كيفية تصوير العلمانية مفهوماً مناقضاً للدين وعن الممارسة الخاطئة للليبرالية السياسية كما نظر لها جون رولز. فاستناداً إلى أبحاثي السابقة، يتضح أثر العلمانية المناضلة على الطريقة الفرنسية لدى اليسار العربي العلماني، وفي جهود الليبراليين الرمزيين لفرض تفسيراتهم غير المعقولة للعلمانية والمحافظة السائدة في مجتمعاتنا وخاصة عند وصولها إلى السلطة.
يمكن ملاحظة ثلاث سمات لهذه الليبرالية: أولاً، كما صاغ الباحث السوري حسام الدين درويش بدقة، لا يستطيع الليبراليون الرمزيون تصوّر ثورة محافظة. فإذا لم تكن تقدّمية، فلا بد من إدانتها. وبالتالي، إذا لم يُعجبوا بالنخبة المحافظة التي تقود المرحلة الانتقالية، فإنهم يدعون إلى نزع الشرعية عن الثورة، حتى ولو يعني ذلك التحالف مع القوة العسكرية للنظام القديم (كما في الحالة المصرية). بالنسبة لهم، بينما تستطيع جميع الأحزاب السياسية أن تغيّر برامجها، لا يستطيع الإسلاميون هذا: إذ يُنظر إليهم سُنّة فاشيين أو ببساطة جهاديين، ولا يُفهمون إلا تلاميذ لمفكري أوائل القرن العشرين مثل سيد قطب وأبي الأعلى المودودي. وهم يفشلون في رؤية كيف أن حتى الجماعات السلفية– الجهادية خضعت لتحوّلات فكرية، كما يتّضح في كتابات المراجعة لأبي مصعب السوري، وأبي يزن الشامي، وأبي محمود الفلسطيني منذ أكثر من عقد، وكيف أثرت هذه التحولات في انتقال جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) إلى منظمة إسلامية أكثر اعتدالاً وبراغماتية. بالنسبة لهم، إمّا أن يُعاد إصلاح الإسلام ليصبح قوة ثورية، أو يُختزل في ديناميكية "سرقة الثورة". إنهم لا يُبدون اهتماماً يُذكر بكيف فاوض الإسلام اليومي والمجتمع المدني السوريين على حضورهم أمام القوى السياسية الانتقالية المحافظة جدّا. عكس هذا الغياب عن الانخراط حالة اغتراب هذه المجموعة عن المجتمع السوري، فبما أنهم يعيشون، في الغالب، خارج سورية، فقد أغفلوا شهاداتٍ عديدة شاركها باحثون سوريون على وسائل التواصل الاجتماعي، ووصفوا فيها كيف أن مشاعرهم بعد زيارة سورية باتت مختلفة تماماً عمّا كانت عليه من قبل، وخصوصاً عندما شاهدوا التفاؤل النسبي لدى الشعب السوري، رغم الفقر وظروف المعيشة القاسية في مرحلة ما بعد الأسد.
يعكس أسلوب الكتابة لدى الليبراليين الرمزيين درجة عالية من اليقين، غالباً مشبعة بشحنة عاطفية ومرتبطة بمنطق سياسات الهوية في بناء الجماعة
ثانياً، النماذج الفلسفية لديهم ليست معنيّة بالإسهامات الآتية من العلوم الاجتماعية. على سبيل المثال، لا يزال بعضهم اختزالياً في رؤيته ما حدث في السويداء باعتباره مجرد دينامية طائفية (سُنّة مقابل دروز). تتجاهل هذا الاختزالية أعمال باحثين سوريين بارزين في شؤون البدو في المنطقة، مثل حيان دخان ودون شطي، اللذين شبّها ما حدث في السويداء بالديناميات في دارفور (رعاة مقابل مزارعين). وقد حثّا على ضرورة أخذ تاريخ التحريض الخارجي في الاعتبار، إلى جانب الأزمة الاقتصادية الراهنة والانحباس الحراري، لفهم التوترات بين الجماعات. تفسير مثل هذه النزاعات أساساً عبر عدسة طائفية –إثنية لا يزيدها إلا تفاقماً، فالليبراليون الرمزيون غير مهتمين بعدم التوافق بين نماذجهم والوقائع المستجدة. على سبيل المثال، النظر إلى الاقتصاد السياسي للنظام السوري الحالي باعتباره مجرّد اقتصاد نيوليبرالي جاذب للاستثمارات الخليجية يحتاج أن يُستكمل بملاحظة نظام مُنهك يدعو لمساهمات تضامنية من المغتربين السوريين ورجال الأعمال المحليين. وأشير هنا إلى "صندوق التنمية السوري"، الذي أُنشئ في الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، وقد جمع بالفعل 64 مليون دولار. كما أطلقت الحكومة السورية الجديدة مبادرة وطنية لمكافحة الفقر، فالاقتصاد السياسي الماركسي الكلاسيكي، رغم أهميته التحليلية، لا يستطيع أن يستوعب أهمية نموذج الهبة عند مارسيل موس في المجتمع. وحتى لو بقيت آفاق الحدّ من تجاوزات الاقتصاد ذي النزعة النيوليبرالية القائم على مبادرات المستثمرين غير واضحة، لا شيء يستبعد إمكانية نشوء اقتصاد اجتماعي وتعاوني ومتجذّر اجتماعياً في سورية مرافق للنزوع إلى النيوليبرالية.
القضية الأساسية المطروحة هي كيف سيتعامل النظام الجديد مع الأخلاق العمومية، في القضايا المتعلقة بالحريات الفردية والتصور التعدّدي للخير
ثالثاً، يعكس أسلوب الكتابة لدى الليبراليين الرمزيين درجة عالية من اليقين، غالباً مشبعة بشحنة عاطفية ومرتبطة بمنطق سياسات الهوية في بناء الجماعة— جماعة داخلية تُعرّف نفسها عبر إقصاء الجماعة الخارجية. يسعى هذا اليقين الأيديولوجي إلى إلغاء الخصوم بدلاً من التحاور معهم. هذا كله ونحن في فترة انتقالية، ويرسل سلوك النظام السوري الجديد إشارات متباينة. بعضها إيجابي: تنظيف السجون، تقليص الفساد البيروقراطي، إنشاء صندوق التنمية السوري ولجنة للعدالة الانتقالية. وبعضها سلبي: مجازر ضد مناطق تسكنها أقليات (بعض الديناميات غذّتها قواعد غاضبة من الأسفل، وأخرى مرتبطة بسوء سلوك أجهزة أمن النظام الجديد)، غياب حوار وطني جاد، تأخير في إضفاء الشرعية على الأحزاب السياسية، وتنوع شكلي في الحكومة والمناصب الرئيسية. على الرغم من هذا الالتباس، تفتقر تحليلات الليبراليين الرمزيين إلى الدقة والاحتشام في المفردات (مثل استخدام: ربما، على الأرجح، حتى الآن)، التي من شأنها أن تسمح بتعديلاتٍ في التفسير بدلاً من التظاهر بأن التحليلات الأولية كانت نبوئية وبصيرة. ولهذا السبب، تُعد بيانات الرأي العام مثل "المؤشّر العربي" الذي ينجزه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضرورية. فهذا المسح الذي أُجري في سورية عبر 3,690 مقابلة للأبحاث ودراسة السياسات، يناقض، في الواقع، الكثير من تحليلات المراقبين الليبراليين الرمزيين للمشهد السوري اليوم، فالأغلبية (56٪) واثقة بأن الحكومة تسير في الاتجاه الصحيح، مقابل 25% يقولون إنها تسير في الاتجاه الخاطئ؛ 61% يؤيدون نظاماً ديمقراطياً. وفي حين يُظهر الاستطلاع أن التوترات الطائفية موجودة بشكل كاسح (85%)، إلا أن السوريين يريدون العيش معاً ككل مكونات الأمة (83%).
وعلى المدى المنظور، القضية الأساسية المطروحة هي كيف سيتعامل النظام الجديد مع الأخلاق العمومية، في القضايا المتعلقة بالحريات الفردية والتصور التعدّدي للخير. سلوك الليبراليين (وطبعا المحافظين) سيكون حاسماً في تحديد ما إذا كان النقاش في هذه القضايا سيكون حوارياً أم صراعياً، فالخطر الحقيقي لا ينبع بالضرورة من الأيديولوجيا الإسلامية المحافظة، بل من الاستبداد. وبينما من الضروري تذكير الأنظمة السياسية بالتزامها بحماية حقوق المواطنين في مجتمع تعدّدي (سيما التوازن بين الحريات والمساواة) باعتبار ذلك كله تصوّراً للعدالة، لا يمكن مواجهة الاستبداد بفرض تصوّر مهيمن للخير. بل يتطلب الأمر التفاوض حول كيفية التعبير عن تصوّرات الخير المتنوعة داخل نمط من العقل العمومي (النقاش التحاوري الذي يستخدم حججاً مفهومة للجميع مهما كان دينهم أو تدينهم) وجعلها تتعايش. وهنا تكون انتقاداتي اليبراليين الرمزيين أكثر حدّة، لأنني أتوقع منهم، بوصفهم باحثين اجتماعيين وفلاسفة وليبراليين، أن يجعلوا النقاش أكثر عقلانية، لا أن يغلقوه تماماً.
