قُصّر على قوارب الموت في الجزائر... تبدل ديمغرافيا الهجرة
عربي
منذ أسبوعين
مشاركة

يتجدّد الجدل في الجزائر حول ظاهرة الهجرة السرية، أو ما يُعرف محلياً بـ"الحرقة"، بعد حادثة هروب سبعة قُصّر على متن قارب نحو السواحل الإسبانية. ويرى مختصون أن الظاهرة تمثل تعبيراً عن رغبة في الخلاص الفردي في ظل انسداد الأفق السياسي والاجتماعي، مشيرين إلى ارتباط تصاعدها بالإخفاق في معالجة أزمات اقتصادية واجتماعية.
وأثار هروب القُصر السبعة على متن قارب في رحلة هجرة سرية نحو السواحل الإسبانية، مطلع الشهر الجاري، صدمة كبيرة داخل المجتمع الجزائري، لكنه أعاد في الوقت نفسه النقاش الجدي حول الظاهرة، إذ توسعت الهجرة السرية أفقياً وعمودياً لتشمل فئات وأعماراً مختلفة، من بينهم القُصّر، بل حتى فئات ليست بالضرورة فقيرة أو عاطلة عن العمل، ما يفرض تسليط الضوء على الدوافع غير المادية التي تغذي الظاهرة، في مقابل الخطاب الرسمي الذي يقدم توصيفاً إيجابياً للوضع الاقتصادي والاجتماعي، متحدثاً عن توفير الوظائف ومنح دعم للعاطلين.
يقول الباحث في علم الاجتماع نوري إدريس، لـ"العربي الجديد"، إن "الهجرة السرية شملت دائماً مختلف الفئات العمرية، من أطفال رُضّع إلى الشيوخ والنساء، وليست هذه المرة الأولى التي يُقدم فيها مراهقون على الهجرة. غير أن هذه القصة مختلفة، إذ لا يمكن فهم سبب هروب القصر من دون معرفة أوضاعهم الاجتماعية، والفئة التي ينحدرون منها، وهذا سؤال أساسي لتحديد ما إذا كانت روح المغامرة هي التي دفعتهم إلى الهرب أم عوامل أخرى".
يضيف إدريس: "النسق السياسي والاجتماعي هو المسؤول الأول عن تفاقم الهجرة، إذ من الصعب إيجاد تفسير واضح لها، فهل السلطة عاجزة فعلاً عن منع الهجرة السرية؟ وهل يفتقر حرس السواحل إلى الإمكانيات اللازمة لوقف الظاهرة؟ لا جواب حاسماً عن مثل هذه الأسئلة، غير أنه لا يُستبعد وجود شبكات منظمة لتهريب البشر، مع احتمال غض طرف من جهات ما".
ويتابع: "أعرف حالات كانت فيها الأسرة عاجزة عن منع أبنائها من الهجرة، لأنها لا تستطيع أن تقدم لهم بديلاً، بل إنها أحياناً تطمح في وصولهم إلى الضفة الأخرى لبناء حياتهم، مع الاستسلام للقدر في حال حدوث مكروه لهم. أما المدرسة، فهي منكوبة ولم تعد تقدم شيئاً للتلاميذ، إذ باتت عاجزة حتى عن غرس القيم الأولية، فكيف يمكن أن تلعب دوراً في قضية تتجاوز أبعادها الأخلاق والقيم والوطنية. الحرقة قضية مستقبل، وفي ظل انسداد الأفق يبقى ركوب البحر الملجأ للهروب من النفق".


وتمكّن المراهقين السبعة الذين لا تتجاوز أعمارهم 18 سنة، من الوصول إلى جزيرة إيبيزا الإسبانية، في رحلة هجرة سرية عبر البحر، بعدما سرقوا قارباً. وقال أكبرهم في مقطع فيديو: "كنا سبعة، والرحلة كانت محفوفة بالمخاطر، إذ تعطّل محرك القارب أكثر من مرة، قبل أن ننجح في إعادة تشغيله".
وكان لافتاً أن هؤلاء القُصّر أبحروا لمسافة تزيد على 200 كيلومتر وحدهم، من دون قائد يتقن الملاحة أو خبرة سابقة بالبحر والاتجاهات. ولم تُعلّق السلطات الجزائرية على الواقعة، لكنها أعلنت فتح تحقيق لمعرفة ملابساتها.
نشر الباحث في علم الاجتماع، نور الدين بكيس، خلال الفترة الماضية، عدداً من الدراسات والكتب حول المتغيرات العميقة التي يشهدها المجتمع الجزائري، والتي تتخذ تعبيرات مختلفة من بينها الهجرة. ويقول بكيس لـ"العربي الجديد"، إن "إقدام قُصّر على مثل هذه المغامرة الخطيرة هو جزء من عملية تقليد، كما أن هذا السلوك يعد تعبيراً عن الجرأة، لذلك نجد شريحة واسعة من المجتمع تُشيد بالهجرة السرية، وبالشباب الذين يخوضونها، وتعتبرهم أبطالاً تجاوزوا مشاعر الخوف والتردد، ما يشجع فئات أخرى على سلوك المسار نفسه، لتتحول الهجرة إلى عدوى تنتشر بسرعة في مختلف الأوساط، معبّرة عن حاجة اجتماعية ملحة إلى الترقي، وهي تمثل في الوقت نفسه محاكمة قاسية للسلطة ومؤسساتها".


ونُشرت خلال الفترة الماضية، مقاطع فيديو توثق هجرة عائلات، بعضهم ليسوا في حالة عوز مادي، كما تضمّنت بعض رحلات الهجرة قُصَّراً برفقة ذويهم، ما يعكس تغيراً في ديمغرافيا الهجرة.
ويوضح بكيس أن "التحاق القُصّر بركوب أمواج البحر للهجرة يذكّر باحتجاجات السكر والزيت التي شهدتها الجزائر في عام 2011، وكان أبطالها باعتراف وزير الداخلية آنذاك من الشباب القُصّر، رغم أنهم أبعد الناس عن تحمّل المسؤوليات الاجتماعية، لكن تنتقل مشاعر الكبار بالضرورة إلى الصغار. وفي ظل انعدام شبه كلي للمشاركة السياسية والنقاش الاقتصادي الحر، وفتور المشاركة الاجتماعية، يصبح من الطبيعي أن يتولّد شعور بالتهميش والإقصاء، وغياب إمكانية تحقيق التطلعات على المدى القصير أو المتوسط، ما ينعكس سلباً على نفسية الشباب ويدفعهم في النهاية إلى التفكير في الهجرة بمختلف الطرق".

ويشير بكيس إلى أن الهجرة تحوّلت إلى ثقافة عابرة للأجيال تنتقل بالعدوى، لأنها تتجاوز مستوى الوسيلة لتحقيق الغاية. فالهجرة بالنسبة لكثير من الشباب الجزائري هي أيضاً وسيلة للانتقام من السلطة، وبالأخص السلطة الأبوية للكبار. وغالباً ما يحرص هؤلاء الشباب على تمرير رسائل التذمّر والانتقاد خلال ممارسة الهجرة فعلياً، سواء في أثناء وجودهم في القارب أو بعد الوصول، في شكل رسائل سياسية بالدرجة الأولى، تتعلق بسوء التسيير وغياب الأفق.
ووفقاً للبيانات الأسبوعية التي ينشرها الجيش الجزائري، فإن وحدات حراس السواحل أحبطت سلسلة محاولات هجرة غير نظامية انطلاقاً من السواحل الوطنية. فمنذ الأول من أغسطس/آب الماضي، أنقذت هذه الوحدات 1147 مهاجراً غير نظامي كانوا على متن قوارب تقليدية الصنع، وسُجل أعلى معدل خلال الفترة بين السادس و12 أغسطس، حيث جرى إنقاذ 562 شخصاً. ويستخدم الجيش في بياناته مصطلح "إنقاذ" للدلالة على إحباط المحاولات وإعادة المهاجرين، في حين لا تتوافر أرقام عن أعداد من تمكنوا من العبور نحو السواحل الإيطالية والإسبانية.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية