لا نجاة من هلع العيش في هذه البلاد
عربي
منذ 22 ساعة
مشاركة

كان الفلاسفة والمفكّرون والمصلحون والشعراء يتطلّعون إلى تحويل الجحيم البشري جنّةً إنسانية، بينما أراد أصحاب الديانات أن ينتظر الناس حتى يوم القيامة ليذهبوا إلى الجنّة أو إلى الجحيم. لكن، في بلادنا، وبالتحديد في بلاد الشام، ها هي جهنّم تأتي إلى الناس بنفسها، ومن غير انتظار، خلافاً لرؤى الأنبياء وخيالهم. إنها الهمجية التي تعود إلى هذه البلاد لتغمرنا بالأسى والعذاب، ولِتُعلَن هزيمة الحداثة وانتصار الصحراء على المدينة، وموت التفكير وغلبة الغوغاء. والغوغاء الذين صاروا ذوي شوكة هم الجمهور العام المنغمر بثقافة شعبوية متواضعة، ومنحطّة أحياناً، من دون أيّ عمق معرفي، بعدما دمّر المتغلّبون الجدد كلّ عمائر المعرفة كالجامعات والمسارح والمتاحف والآثار والمكتبات ودور السينما. وهذه الثقافة الشعبوية الصاخبة استولت اليوم على شاشات التلفزة، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. ولا عزاء لنا في هذه الحال إلا أن نردّد المثل الصيني "حين يصبح لأشخاص صغار ظلّ كبير فتلك إشارة إلى أن الشمس تغيب".
لقد تشابهت علينا البقرات السود في الليالي الحالكة، فما عاد أحدٌ يفرّق أبناء النور عن أبناء الديجور. وكنّا في قديم الزمان منشغلين بالهُويَّة العربية التقدّمية، فصرنا مغمورين بالهاوية العربية. وكنّا نتطلّع إلى توحيد الأمة العربية وإقامة العدالة الاجتماعية وهزيمة الإمبريالية والاستعمار وتحرير فلسطين، فإذا بنا، على الرغم من رومانسية تلك التطلّعات، نتهاوى إلى الانشغال بالدروز والبدو والعشائر والفزعة وكبّ دلال القهوة، فضلاً عن الشيعة والسُّنّة ومظلومية المسيحيين وجروح العلويين وذعر الدروز (وهو ما لا يجوز)، كأننا ما زلنا في زمن سقيفة بني ساعدة، أو في زمن قابيل الفلّاح وهابيل الراعي، أو في عصر الغزوات والفتوحات والقبائل المنتصرة والقبائل المهزومة وسبي النساء واستخوال الأطفال وبيع الرجال في أسواق النخاسة.

ما نخشاه من المستقبل المروِّع أن تكون غاية هذه الملاحم البشرية المتنقلّة بين غزّة وسورية فرط الجماعة الوطنية في فلسطين، والجماعة السياسية في سورية

يقول ابن خلدون: "رزق القبائل في ظلال رماحها، وطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حدّ ينتهون إليه". والسبب أن المجتمع القبلي يعيش في اقتصاد الندرة، الأمر الذي يُرغم الأعراب (لا العرب) على شنّ الغزوات لتأمين عيشهم، أو فرض الإتاوات على القوافل التجارية العابرة بالقرب من مضاربهم، أو اجتياح أراضي الفلاحين عند تخوم البادية بذريعة الرعي. وحتى الأمس القريب، كاد السلطان عبد الحميد الثاني أن يُجنّ؛ فكلما مدّ المهندسون مائة متر من سكّة حديد الحجاز، يكتشف في اليوم التالي أن السكّك الحديد، ودعائهما الخشبية، قد أُزيلت من أماكنها. ولم تستقم الأحوال إلا بدفع "المقسوم" لزعماء القبائل المنتشرين على طول سكّة حديد الحجاز. وكانت الحركات التوحيدية العربية، مثل الثورة العربية الكُبرى التي قادها الشريف حسين بن علي، وأولاده فيصل وعلي وعبد الله، قد استندت إلى بدو الحجاز والأردن، ومعهم رجال الاستعمار البريطاني أمثال لورنس. وكذلك استندت حركة عبد العزيز آل سعود إلى بدو نجد ورجال الاستخبارات البريطانية وشيوخ الدين. والحركات الإسلامية الجديدة المقاتلة استندت إلى أبناء العشائر البدوية وجماعات مهمّشة تعيش على تخوم الزراعة؛ والواحد من تلك الجماعات المهمّشة يسرق كفن الميت إن استطاع. وهؤلاء جميعاً صاروا أصحاب الشأن وأصحاب الخبر (صاحب الخبر هو رجل الاستخبارات في العصور العربية القديمة)، بعدما دمّر الاستبداد العسكري كثيراً من مرتكزات الحداثة والتقدّم والحرّيات التي بدأت منذ مائة عام في مصر والشام والعراق، وأُوقف زخمها منذ نحو خمسين عاماً.
أمام هذه الأهوال وانقلاب الأحوال نتساءل: لماذا نكتب إذاً؟ وماذا نكتب؟ إننا نكتب حتى لا يتغلّب المستقبل المُروِّع على الماضي المتحفّز ويطمره تحت الركام. وما نخشاه من ذلك المستقبل المروِّع (اعتقدنا أنه سيكون رائعاً... يا للسذاجة) أن تكون غاية هذه الملاحم البشرية المتنقلّة بين غزّة وسورية هو فرط الجماعة الوطنية في فلسطين (الشعب والأرض والقضية)، وفرط الجماعة السياسية في سورية، أي فرط الدولة الحديثة التي نشأت بإرادة أبنائها بعد جلاء الاستعمار الفرنسي عنها في 1946، وصاغت دستوراً، وأسّست جيشاً، وأنشأت دولةً وقوانين وجامعات ومعاهد ومتاحف ومكتبات ومسارح. ومنذ سنوات إلى الوراء كانت صورة المشرق العربي مثل "المنامات المخربطة"، أي سريالية تماماً (مع أن السريالية حركة شعرية وفنّية ومعرفية عظيمة)، فأكراد العراق، على سبيل المثال، متفاهمون مع تركيا التي تشنّ حرباً على إخوتهم أكراد تركيا، الذين لاذوا بديار الأكراد في العراق. وإيران الإسلامية تحالفت مع سورية البعثية شبه العلمانية التي تحارب الإسلاميين، والإخوان المسلمون في العراق أيدوا التدخّل الأميركي في العراق، وعلى منوالهم غزل الإخوان الليبيون مواقفهم من تدخّل حلف الأطلسي في بلادهم. وصار هناك شيوعيون يؤيّدون الولايات المتحدة، وليبراليون يتحالفون مع الإسلاميين (المجلس الوطني السوري). وعلى ذلك الغرار، تحالفت الولايات المتحدة مع السعودية التي ناصرت في إحدى المراحل الجهاديين السلفيين الذين قَتَلوا الأميركيين.

نكتب أمام هذه الأهوال وانقلاب الأحوال حتى لا يتغلّب المستقبل المُروِّع على الماضي ويطمره تحت الركام

نعم، خابت آمالنا وتوقّعاتنا، ويكاد الرجاء يندثر. فمنذ أواخر سبعينيّات القرن المنصرم، مع انتصار ثورة الخميني، وصعود التيارات الإسلامية الجديدة غداة اجتياح القوات السوفييتية أفغانستان، انهمكنا في قراءة ما فاتتنا قراءته مثل كتب أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي وسّيد قطب، وحتى عبد السلام فرج وعبد الصبور شاهين و"المرتدّ" محمّد عمارة. غير أننا لم ندرك أننا ورثنا أيضاً أبو مصعب الزرقاوي وأبو بكر البغدادي وأبو حمزة المصري وأبو بكر السوري وأبو قتادة الفلسطيني، وعنتر الزوابري من جبال الزبربر في الجزائر، وقبلهم عمر عبد الرحمن وجهيمان العتيبي. وكنّا قد تعلمنا العلم المحض والرياضيات البحتة والمناهج العلمية والبحث العلمي والتفكير العلمي، وأصبنا مقادير من ذلك كلّه. لكن إسلاميين جدداً قلبوا العلم، وشرعوا في إقناعنا بضرورة تعلّم الذبح والحرق وقطع الأعناق وجزّ الرقاب وفقء العين وصلم الأذن وجدع الأنف وبقر البطن وسبي النساء ونكاح الصغيرة وإرضاع الكبير ومجامعة الوداع وهدم الحصون والقلاع والمتاحف والآثار وحرق الكنائس وتفجيرها، ولا حاجة إلى دليل لاكتشاف زبانية الجحيم هؤلاء، فالبعرةُ تدلّ على البعير.
هذا ما فعلته بنا طوارئ الزمان، وما صنعته بأحلامنا طوارق الحَدَثان. ويريدون اليوم أن نغفر لهم ونقبل صورهم الجديدة. هيهات، فهذه الحجّة مثل حجّة شاب قتل والده، وفي المحكمة راح يطلب الرحمّة لأنه يتيم الأب.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية