النخب المصرية وإدمان الفشل
عربي
منذ ساعتين
مشاركة

من باب اذكروا عجائب نخبتكم، يُروى أن أحد تلامذة الدكتور عاطف صدقي سأله بعدما دخلت سياسات الخصخصة مرحلة التطبيق الفعلي في مصر عام 1991، كيف سينفذ مبادئ الاقتصاد الحر وهو من علمهم "حتمية الحل الاشتراكي" وله مؤلف صدر بهذا العنوان الجازم عام 1971؟ كما أنه تلميذ نجيب للدكتور إسماعيل صبري عبدالله المفكر الاقتصادي والكادر الشيوعي، وأحد رواد مدرسة الاقتصاد الموجه، وبغض النظر عما قاله الرجل أو برر به موقفه، فالجواب هو ما رأيناه وليس ما سمعناه، فلا الاشتراكية نفعت ولا الرأسمالية شفعت، والرجل كغيره من تكنوقراط مصريين وسد إليهم الأمر فلم يكونوا من أهله، مثله في هذه التناقضات والخلفية الأكاديمية الموظفة في خدمة السلطة مهما كان مشروعها، كالدكتور علي الدين هلال، الوزير السابق والقيادي بالحزب الوطني المنحل وأستاذ العلوم السياسية وصاحب أحد أهم المؤلفات في التنظير لـ"الانتقال إلى الديموقراطية... ماذا يستفيد العرب من تجارب الآخرين"، وقبلهم كان ينبغي أن يستفيد المصريون مما جاء في كتابه المعنون بالكلمات ذاتها، وقد حصل وما يزال على العديد من الفرص تطبيقاً لأفكاره هو وغيره، فلم نجد لهم عزماً.

القائمة تطول، خذ عندك الدكتور حازم الببلاوي والدكتور محمد البرادعي ونخب الإسلاميين لدى توليهم الحكم وما أتوا به مما لم يسمع به الأوائل وربما كذلك من جاء بهم حظهم العاثر يوماً ما في بلادنا، وقبلهم الأنتلجنسيا المثقفة وهؤلاء بالذات عجائبهم لا حد لها، كدعوة سابقة للروائي علاء الأسواني، الذي دائماً ما كان يختتم مقالاته بـ"الديمقراطية هي الحل"، إلى قصر الانتخاب على من يعرفون القراءة والكتابة! أي مزيداً من التهميش للمهمشين وهو في ما ذهب إليه لا يختلف كثيراً عما يقوله كثير من النخب القاهرية التي تلح على فكرة أن الشعب ما يزال غير مؤهل للديمقراطية، وهكذا كان وسيظل إلى يوم القيامة، طالما أن هؤلاء نخبه، ومن بينهم مثلاً قيادي في حزب يسمى "المصري الديمقراطي الاجتماعي"، (إن هي إلا أسماء سميتموها)، سبق أن قال في حديث تلفزيوني، إن "اللواء عمر سليمان، رئيس المخابرات الراحل، أكد أن الشعب المصري غير مؤهل للديمقراطية وكان محقاً في حديثه"، وهذا بالرغم من أن هذا الحزب ضمت قائمة المؤسسين له Crème de la Crème، أو نخبة النخبة، أسماء مثل محمد أبو الغار، عمرو حمزاوي، والمخرج داود عبد السيد، وحازم الببلاوي، والسفيرة ميرفت التلاوي.

استدعاء ما سبق من شخوص وأقوال وأحداث ونماذج، لا يروم التقليب في المواجع، ولكن مناسبة نخبوية بما لها من حمولات رمزية يعبر عنها شخوص الحضور وما قالوه في مكان تجمعهم (من ومتى وأين)، يستحضر الفكرة الواردة في عنوان المقال وهو بالمناسبة مستوحى من كتاب للدكتور منصور خالد الدبلوماسي والمفكر السوداني، بالاسم ذاته مع تبديل المصرية هنا بالسودانية هناك وربما حتى يمكن مد الخط على استقامته إلى العربية، فكلنا في الهم شرق، المهم جرت الوقائع المذكورة قبل أيام في قرية الدبلوماسيين بالساحل الشمالي مصيف النخبة المصرية وقد مثلها في اللقاء تشكيلة معتبرة سياسية وأكاديمية ودبلوماسية وحزبية ووزارية سابقة وحتى رجال الأعمال، في ندوة ثقافية فكرية لمناقشة الأوضاع الراهنة في مصر والتطورات الإقليمية، كما جاء في الأخبار السيارة، بحضور عمرو موسى، الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، وحسام بدراوي الأمين العام قبل الأخير للحزب الوطني المنحل، والسفير مصطفى الفقي ورجل الأعمال صلاح دياب والقيادي الوفدي منير فخري عبد النور وزير الصناعة والتجارة الأسبق.

إنها مجموعة مختارة من أصحاب النفوذ لديهم امتيازات كثيرة تفرض عليهم مسؤولية تجاه مجتمعهم، ينطبق عليهم ما قاله الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي في مقالته الشهيرة "مسؤولية المثقفين"، بأن دورهم "تحسين أسباب الحرية والعدالة والرحمة والسلام وسائر الاهتمامات الوجدانية الأخرى وهذه المسؤولية الأخلاقية عليهم بوصفهم بشراً محترمين في وضع يمكنهم الاستفادة من حالتهم"، وخاصة أن الظرف التاريخي والحال في مصر والإقليم وصل إلى مرحلة خطرة لم يعد صريح الكلام (إن قيل) كاف لمواجهتها، فبركة المياه لم تعد آسنة بل إنها فارغة مليئة بالتشققات المنذرة لمن كان له عقل أو ألقى السمع وهو شهيد للخطر المحدق بنا شرقاً (التمدد والتوحش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين) وغرباً (الفوضى المليشياوية الليبية) وجنوباً (تفتيت السودان وتمركز مليشيا في خاصرة القاهرة)، بالإضافة إلى استمرار مأساة الاستقطاب وتحولها إلى مهزلة، لا يوجد أفضل من هذا الاقتباس المنتشر على وسائل التواصل للتعبير عنها بالقول: "يا ترى البلاد اللي مفيهاش اخوان بترمي بلاويها على مين ...؟!"، والمقصود هو حالة الترهل والفساد الذي ينخر في الدولة أو ما تبقى من هياكلها متبدياً على شكل كوارث وحوادث وحرائق وشكوك في المستقبل، فهل هذا ما جرت مناقشته وطرح حلول خلاقة وإبداعية له استباقاً ووقاية من الوصول إلى مرحلة "خراب مالطة"؟

لا بالعكس فما تداول وفق التغطيات المنشورة، لم يخرج عن سردية شعبوية مملولة لفرط ما تكررت بتناقضات مبنية على أضغاث من قبيل الشعب المميز بجينات الحضارة والاحتياطي الأخلاقي (في الحديث نفسه جرى تحميل المجتمع مسؤولية فقدان بوصلة القيم!) وروح الفكاهة (الناس تكلم نفسها في الشوارع؟!)، والطقس الجميل والتاريخ والشواطئ (العالم أغلبه هكذا!)، لكن الأكثر غرابة هو ما قاله بدراوي بـ"إمكانية أن تعود مصر دولة عظمى لأنها تملك إمكانيات الدولة العظمى"، في خطاب يمكنك أن تزجي به وقتك على أي مقهى ولن تضر أحداً، إنما لا يليق أن يخرج في هذا الجمع ولا من المحسوبين على النخبة، هذه أوهام أعمت المصريين عن حقيقة وضعهم الغارق في وحول تزيد كل يوم، ويفترض أن يتصدى له ويفككه هؤلاء المناط بهم ملء فجوة هائلة تتسع كل يوم لتدمر ثقة الشعب في الدولة لا أن يتمطى بينهم، ولهم في صانع نهضة ماليزيا الدكتور مهاتير محمد أسوة حسنة، فقد صارح شعبه في مؤلفه "معضلة المالايو" الصادر عام 1970 كاشفاً حقيقة أحوالهم وانتقدهم وحتى اتهمهم بالكسل، والقبول بأن تبقى بلادهم دولة متخلفة، لذا لدى توليه السلطة في 1981 حول أفكاره إلى واقع، فلم يكن أداة طيعة في يد السلطة وارتبط بواقع مواطنيه ولم يكن في عزلة عنهم، كما أنه بحكم تكوينه العلمي والنفسي والسياسي لديه قدرة على التفكير الاستراتيجي العميق والتجديد والتأثير، متحملاً مسؤولية شعب أراد قيادته بنزاهة ومسؤولية أخلاقية قائماً بدوره المفترض ومتحملاً مسؤوليته النخبوية، ليخلق مشروعاً وطنياً جامعاً لم يرتهن للخارج أو يثخن في الداخل على عكس ما يحدث في وطننا.

إنها أزمة بلاد، نخبتها ألقت ما فيها وتخلت.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية