عن أخلاق الناس في هذا الزمان
عربي
منذ ساعة
مشاركة

شيخي رجلٌ طاعنٌ في السن، لكنه خَبَرَ الناس، وعَلِمَ تقلبات الزمان، وله في الحكمةِ باعٌ طويل، وأنا أزوره بين الفينةِ والأخرى لأتزوّدَ من حكمته.

هو اليوم معتكفٌ في خلوته يتعبّد بالتفكّر، ويرى أنَّ تلك العبادة أهملها كثيرٌ من الخلق.

وهنا أوردُ بعضًا مما دار في مجالسه.

(1)

سألتُ شيخي: لِمَ ساءت أخلاق الناس في هذا الزمن؟

قال: لقد ساءت لمّا تمادى الناس في الترف والتوسع في النعمة.

قلتُ: لكن ليس كلّ الناس يعيشون في ترف، فهناك الفقراء.

قال: لا يذهب عقلك بعيدًا في تأويل لفظة الترف؛ فهي تُطلق على كلِّ زائد على الحاجة، وهي سمة أهل زماننا، يقتنون ما لا يحتاجونه، وهم في ذلك يتفاوتون، لكن لن تجد مَنْ يريد مجرّد القوت الضروري.

قلتُ: لكن يا شيخي، ما علاقة ذلك بسوء الأخلاق؟

قال: إنَّ الناس كي يعيشوا في ترف يتطلّب منهم كثرة الدخل، وهذا ما يدفعهم إلى سلوك طرق غير شريفة في التحصّل على هذه الزيادة في الدخل، وكذلك يؤدي كثرة الترف إلى التفنّن في الشهوات؛ يقول ابن خلدون: "يكثر منهم الفسق والشرّ والسفسفة والتحيّل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه. وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له، فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغشّ والخِلابَة (أي: الخداع) والسرقة والفجور في الأيمان والربا في البياعات، ثمّ تجدهم لكثرة الشهوات والملاذ الناشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به".

بل إنَّ ابن خلدون يتوسع في هذا الأمر، قائلًا: "وتجدهم أيضًا أبصر بالمكر والخديعة، يدفعون بذلك ما عساه أن ينالهم من القهر وما يتوقّعونه من العقاب على تلك القبائح، حتّى يصير ذلك عادةً وخلقًا لأكثرهم إلّا مَنْ عصمه الله. ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة".

قلتُ: كأنَّ ابن خلدون حاضرٌ في زماننا!

 

(2)

مما أوصاني شيخي:

في كلِّ زمانٍ هناك فرعون وموسى وسامريّ وهارون، وكلنا نعرفُ كلَّ واحدٍ مِن هؤلاء.

فسَلْ نفسَكَ دومًا: مَنْ تشبه منهم أنتَ في هذا الزمان؟

(3)

قلت لشيخي: ما أسوأ شيء يمكن حدوثه في دنيانا؟

قال: أن تُمسخَ مسميات الأشياء التي نعرفها؛ فيصبحَ الباطلُ حقًا، والحقُّ باطلًا، والنفاق مهارةً... إلى آخر تلك الكوارث، حينئذٍ لن تكونَ للمرءِ العاقل في مجتمعه قيمة، لأنَّ مثل هذا المجتمع سيكون فيه الكاذب صادقًا، والخائن مؤتمنًا، والشريف مُتَّهَمًا، وهكذا.

عندها سنحيا في دنيا مزوَّرة، وللحياة مزوِّرة، فقل لي هل سنسمِّي تلك حياة؟!

 

(4)

مما أدركتُ من أقوال شيخي الحكيم:

"إنَّ أسمى مراتب الحبِّ العبادة؛ فالعابدُ يهيمُ في حبِّ معبوده، فلا تكن عباداتنا مجرّد حركات وهمهمات وشعائر معدومة الوجدان، بل هي التعبير الصادق عن حبّنا وشكرنا لخالقنا في صورة صلوات وتسبيحات وسلوكيات صالحة تجاه مجتمعاتنا الخاصة منها أو الإنسانية".

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية