
ترافق إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، سواء عبر الشاحنات أو الإسقاط الجوي، حملة تضخيم إعلامية تقودها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، في محاولة لتضليل العالم، أو لفت نظره عن التجويع.
على مدار عدة ساعات يومياً، يقف المسن الفلسطيني سليم الدردساوي مع حفيده الصغير أمام إحدى التكايا الخيرية في مدينة غزة، حاملين أواني فارغة عدة، على أمل الحصول على بعض الطعام، في مشهد متكرر يعيشه الآلاف يومياً، لكن بعد انتظار طويل، لم يحصلا على شيء، وعادا بالأواني فارغة إلى خيمة الإيواء، حيث ينتظرهما خمسة عشر فرداً يرغبون في ما يسد جوعهم.
بصوت متعب يحكي الدردساوي لـ "العربي الجديد": "تجولت على التكايا الخيرية على أمل أن يشفق على حالتي من هم بداخلها، لكنهم لم يوزعوا علينا. حفيدي استشهد والده، ويرافقني إلى التكايا الخيرية لجلب الطعام، وقد كبر على المعاناة والألم. جل عائلات غزة لم يتغير حالها بعد بدء إدخال المساعدات، وبقيت حالة التجويع قائمة، ونعجز عن شراء وجبة طعام واحدة يومياً لانعدام الدخل. التجويع الحالي غير مسبوق، في السابق كان هناك بدائل، وكان لدينا مال أيضاً، وكل هذا لا يتوفر حالياً". يتابع: "نتيجة حالة التجويع الشديد ونفاد الطعام، اضطررت لإرسال ابني إلى مناطق خطرة تصل إليها شاحنات المساعدات التي يسمح الاحتلال بإدخالها، ما يعرضه للخطر، فبدلاً من العودة بكيس الطحين قد يعود في كفن كما حدث مع أبناء عشرات العائلات".
بدوره، يضطر غسان القطاع إلى السير لأكثر من تسعة كيلومترات من أجل الحصول على وجبة طعام له ولزوجته من إحدى التكايا الخيرية. تتكون الوجبة من كمية ضئيلة من الأرز استطاع بشق الأنفس الحصول عليها، بعد أن سار من خيمته الواقعة على شاطئ البحر حتى وسط مدينة غزة. ويحكي لـ "العربي الجديد": "جئت مشياً من مسافة بعيدة لأنني لا أملك مالاً، ومنطقة نزوحي لا يصلها الماء أو الطعام، وبالتالي ينبغي عليَّ البحث طويلاً بين التكايا الخيرية من أجل الحصول على طعام".
بملامحه التي لسعتها أشعة الشمس، وجسده الظاهرة عليه علامات النحول نتيجة التجويع، يقول القطاع: "لم أحصل على أي من المساعدات التي دخلت مؤخراً، لا عن طريق الإنزال الجوي ولا الشاحنات التي تدخل من معبر زيكيم في الشمال أو محور موراج في الجنوب. نأكل وجبة واحدة يومياً، هي كل ما نستطيع توفيره من خلال البحث الطويل، والشاحنات التي دخلت استولت عليها عصابات، وحرمت منها العائلات الفقيرة الجائعة. الاحتلال يشجع الفوضى لاستمرار التجويع، ولا يوجد لدينا أي بدائل، حتى العدس الذي كان متوفراً في أوقات سابقة انعدم، أو ارتفع سعره، وبصعوبة أستطيع الاستدانة لشراء كيلو طحين لإعداد الخبز كل ثلاثة أيام".
ووفق أرقام المكتب الإعلام الحكومي في غزة، دخل إلى القطاع منذ بداية شهر يوليو تموز الماضي، 674 شاحنة مساعدات من أصل أكثر من 4800 شاحنة كان يفترض أن تدخل لتلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الإنسانية، وأن الاحتياج الفعلي في حده الأدنى هو 600 شاحنة يومياً تحمل المواد الغذائية والطبية، والوقود، بينما ما يُدخل لا يتجاوز 14% فقط من الكميات المطلوبة.
ولا تستطيع الفئات الهشة الحصول على الطعام وفق الآلية التي فرضها الاحتلال، ما يعرض نحو 650 ألف طفل للموت بسبب سوء التغذية، فضلاً عن وجود 22 ألف مريض بحاجة للعلاج في الخارج، ويمنع الاحتلال سفرهم، و12 ألف مريض سرطان يواجهون الموت نتيجة نقص العلاج، ونحو 60 ألف سيدة حامل معرضة للخطر لانعدام الرعاية الصحية، و350 ألف مصاب بأمراض مزمنة، ونحو 170 ألف مسن، وأكثر من 150 ألف مصاب حرب.
ويؤكد مدير المكتب الإعلام الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، لـ "العربي الجديد"، أن المساعدات التي دخلت إلى القطاع لم تغير المشهد الإنساني الذي يواصل التفاقم، وما زالت عشرات آلاف العائلات عاجزة عن توفير لقمة الطعام، وبصعوبة تستطيع توفير وجبة واحدة غير مشبعة يومياً.
يضيف الثوابتة: "يكذب الاحتلال الإسرائيلي بشكل ممنهج حين يروج رواية انتهاء المجاعة في غزة، في حين تظهر الوقائع الميدانية والبيانات الموثقة أن أكثر من مليوني إنسان لا يزالون يرزحون تحت خطر الجوع الشديد، كما أن الاحتلال يختار تمرير بعض الشاحنات من خلال شبكات تجار محليين بطريقة غير مقبولة، ثم يستخدم هذه الحالات المحدودة كدليل مزعوم على تحسن الوضع الإنساني. هذا التضليل المتعمد هدفه تبييض وجه الاحتلال أمام العالم، في حين أن سياسة التجويع مستمرة كأداة حرب".
ويوضح: "التركيز المفرط على رواية انتهاء التجويع هو جزء من حرب الرواية التي يقودها الاحتلال الإسرائيلي مدعوماً من الإدارة الأميركية، في محاولة لتقويض تأثير التقارير الحقوقية والإنسانية الدولية التي تؤكد أن غزة دخلت المرحلة الثالثة من الجوع الجماعي، وتسعى إسرائيل من خلال هذه الرواية إلى تجفيف الزخم الحقوقي والمطالبات بالمحاسبة الدولية، وإعطاء انطباع كاذب بأن الأوضاع تتحسن تدريجياً، والمشاركة الأميركية في هذه الحملة هي محاولة لحرف الأنظار عن المسؤولية القانونية المباشرة لواشنطن عن جريمة التجويع التي ترقى لجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية وفق القانون الدولي".
ويؤكد المسؤول الفلسطيني: "يتعمد الاحتلال الإسرائيلي هندسة الفوضى كأداة لتعميق التجويع وضرب النسيج الاجتماعي عبر تمرير عدد محدود من الشاحنات من خلال سماسرة وتجار مقربين منه، مع تأمين ممرات خاصة لهذه الشاحنات، في حين تترك الغالبية العظمى من المساعدات في مناطق غير آمنة، فتتعرض للنهب، أو لا تصل إلى الجهات الإنسانية لتوزيعها. هذه الفوضى تستخدم لتدمير ثقة المجتمع في عدالة التوزيع، وتمزيق التنسيق الأهلي والمؤسسي، وبالتالي تغذية المزيد من والاحتقان لتفكيك البنية المجتمعية من الداخل تحت غطاء المساعدات".
أما الإنزالات الجوية، فيؤكد الثوابتة أنها "تفتقر إلى أي قيمة إنسانية حقيقية، وهي شكل إعلامي أكثر منها أداة إغاثية، إذ إنّ نسبة ما يصل منها إلى المحتاجين لا يكاد يذكر، وغالباً ما تسقط في مناطق غير مأهولة أو غير آمنة، والاحتلال يتحكم في مسارها ومواقع سقوطها، ما يفقدها المصداقية والفعالية. تهافت بعض الدول على المشاركة بالإنزال الجوي دوافعه سياسية، أو استعراضية لتسجيل موقف إنساني، بدلاً من خوض معركة حقيقية لفتح المعابر أو كسر الحصار، ما يسهم في تعزيز رواية الاحتلال الزائفة بأن الوضع تحت السيطرة، بينما المطلوب هو فتح المعابر البرية وإنهاء الحصار فوراً".
من جانبه، يتهم رئيس شبكة المنظمات الأهلية في قطاع غزة، أمجد الشوا، الاحتلال الإسرائيلي بممارسة تضليل إعلامي فيما يتعلق بإدخال المساعدات، مؤكداً أن ما يدخل هو عشرات الشاحنات فقط يومياً، وهي تمر عبر مسارات إجبارية يفرضها الاحتلال، وتتضمن أصنافاً محددة من المواد الغذائية.
ويقول الشوا لـ "العربي الجديد": "ممرات المساعدات الإجبارية يسيطر عليها لصوص وقطاع طرق، ولا يصل الكثير منها إلى عشرات آلاف المجوعين، ولا تصل إلى مخازن التوزيع لإيصالها إلى الفئات الأكثر هشاشة، مثل ذوي الإعاقة وكبار السن والمرضى والجرحى، وعلى الأمين العام للأمم المتحدة إعلان قطاع غزة منطقة مجاعة، وأن يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته القانونية والأخلاقية، ويضغط لفتح المعابر وإدخال المساعدات".
ويؤكد الشوا أن "التجويع جريمة حرب، وكل الشواهد على الأرض تؤكد حدوث المجاعة، وأننا في مرحلة متقدمة منها مع نفاد المواد الأساسية كالخضروات وحليب الأطفال، وهناك 55 ألف رضيع محرومين من الرضاعة الطبيعية في وقت يمنع الاحتلال إدخال حليب الأطفال، وباتت شواهد المجاعة واضحة على الجميع، إضافة إلى أن حالة المجاعة متزامنة مع تعطيش ونزوح، وكارثة بيئية متفاقمة".
ويضيف: "عمليات الإنزال الجوي تأتي في فترة صعبة، فمساحة قطاع غزة تقلصت، ويتواجد السكان في 12% فقط من المساحة، وهناك حوادث سقوط خاطئة يومية، كما أن الإنزالات تضم كميات قليلة مقارنة بما يدخل عبر المعابر البرية، وهناك ضرورة للعمل على تعزيز الدور الإنساني للوكالات الأممية، وعلى رأسها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)".
